بحث

جار التحميل...
مشاركة

الملخص التنفيذي: 

تعيش البلاد التونسية أزمة مائية حادة منذ عدة سنوات ساهمت فيها عدة عوامل أهمها اتباع سياسة فلاحية غير مهيكلة و مهيمنة على الموارد المائية مما اعطى شرعية استغلالها بشكل مفرط، كذلك عجز الإطار المؤسساتي وانبناء المنظومة التشريعية على سياسة العرض عمق هذه الازمة وجعل الموارد المائية بلا رؤية واستراتيجية واضحة، لكن رغم حدة هذه الوضعية إلا أن هناك حلول واجبة الاتباع للخروج من هذه الازمة وإن تطلب تنفيذها مدة زمنية، تبقى السبيل الأنجع لتصويب استعمالات الموارد المائية. 

المقدمة: 

إن حقوق الانسان وحدة متكاملة ومترابطة لا يمكن أن تتجزأ، إذ يعتبر الولوج إلى المياه أحد الحقوق الاصلية لإعمال باقي الحقوق الأخرى على غرار الحق في الصحة. وها ما كرسته لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن التعليق العام رقم 15 الذي عرف الحق في الماء بأنه عنصر أساسي للتمتع بحياة كريمة وعامل حيوي لإعمال العديد من الحقوق الأخرى والتمتع [1]بمستوى عيش لائق.

أما على المستوى الوطني، فقد جاء الحديث عن الماء كحق من حقوق الانسان بصفة متأخرة أي منذ دستور 27 جانفي 2014 عندما تعالت أصوات مكونات المجتمع المدني المطالبة بإلزامية إقرار الحق في الماء ضمن المبادئ الدستورية. انعكس هذا التوجه سلبا على المقدرات وجعل من ندرة المياه وشحها ملزما منذ عقود  كما تمر البلاد التونسية بأزمة هيكلية حادة في التصرف في الموارد المائية ساهمت فيها عدة عوامل، منها ما هو مرتبط بالجانب المناخي للبلاد الذي يتراوح بين شبه جاف وجاف وما يتميز به من قلة التساقطات[2]. حيث تتلقى البلاد حوالي 36 مليار متر مكعب من مياه الأمطار سنوياً. لكن الكمية التي يمكن تعبئتها والتحكم فيها لا تتجاوز 2.7 مليار متر مكعب سنويا بالنسبة للمياه السطحية وحوالي 2.1 مليار متر مكعب من المياه الجوفية أي بمتوسط إجمالي يقدر ب 4.8 مليار متر مكعب[3]. ومنها ما هو مرتبط بسياسات الدولة في التعاطي مع الموارد المائية التي تعتبر الجزء الأساسي في [4]الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة حيث يقدر فيها نصيب الفرد بأقل من 348 متر مكعب في السنة. 

ولتبيان هذه الجوانب بأكثر دقة وتحليل سوف يتم التطرق إلى عنصرين في غاية الأهمية أولهما التشخيص قصد الإلمام بالإشكاليات الأكثر تأثيرا في وضعية الموارد المائية وهي تأخذ شكل التحديات ضمن هذا البحث، أما العنصر الثاني فهو يمثل البدائل الممكنة والرهانات المستنتجة. 

تحديات المنظومة المائية 

لقد أدركت الجهات المعنية بالموارد المائية بصفة متزايدة أنه في سبيل التصدي لهذه الأزمة لابد من المرور بالتشخيص الفعلي لواقع الموارد المائية وبجميع الجوانب والقطاعات المتداخلة فيها بداية من القطاع الأكثر استغلالا للموارد المائية ثم الإطار المؤسساتي المعني بالتصرف وتوزيع المياه كذلك المخططات والتوجهات وخيارات السلطة السياسية وصولا إلى الإطار القانوني والتشريعي لهذه المنظومة.

 الهيمنة الفلاحية على الموارد المائية 

إن ابراز هيمنة قطاع الفلاحة على الموارد المائية يمرّ حتما بالوقوف على جذور ومبررات هذا التمشي في مرحلة أولى ثم كيفية التوسع في المساحات المروية في مرحلة ثانية. 

المرحلة الأولى: تعبئة الموارد المائية للغايات الفلاحية 

غداة الاستقلال كان الاقتصاد التونسي هزيلا، لا ينم على بناء دولة تستطيع مجابهة الأطماع الخارجية في تحويلها إلى سوق استهلاكية وتحرير خدماتها للمستثمرين الأجانب. ولم يكن لدى السلطة السياسية آنذاك كثيرا من الخيارات الاقتصادية غير الاستثمار في المجال الفلاحي من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي المعيشي. حيث تم تبني سياسة تعبئة الموارد المائية عبر الاهتمام الكبير بإنشاء السدود [5]وتحويل مياهها استجابة للمتطلبات الزراعية وقد تدعمت هذه الخيارات خاصة مع تجربة التعاضد 1963 على يد أحمد بن صالح. 

وقد حددت سبعينيات القرن الماضي خيارات الموارد المائية التي انبنت على سياسة العرض (كميّات مياه محترمة مقارنة بعدد السكّان وحاجتهم للغذاء)، أما التخطيط لها فقد تميزت به فترة الثمانينات عبر انجاز المخططات المديرية والتي كانت نتيجة لدارسة[6] احتوت على الحلول التقنية لإدارة الموارد المائية حسب الأقاليم لكن الغاية من تلك المخططات كانت ترجمة توجهات الدولة في تعبئة الموارد المائية نحو تكثيف الغراسات المروية وتشجيع المستثمرين الفلاحيين وتقديم تسهيلات في نظام الاقتراض. هذه الأسباب مهدت الأرضية لبسط هيمنة الفلاحة على الموارد المائية. 

المرحلة الثانية: التوسع في المساحات المروية     

قبل الاستقلال كانت الأراضي المجهزة والمعدة للغراسة لا تتجاوز 65 ألف هكتار منها 26 ألف هكتار مستغلة من قبل القطاع الخاص. لكن تشجيع الدولة على الفلاحة السقوية ومحاولة ادراجها داخل السوق جعل تتطور بشكل كبير مقارنة بسنة 1980 وسنة 2018. كما هو مبين في الرسم أسفله. وهو ما أدى بذلك إلى ارتفاع نسبة استغلال الموارد المائية 

تطور المساحات السقوية بين سنة 1980 وسنة 2018

توسعت المساحات من 165 ألف هكتار سنة 1980 إلى حدود 232 ألف هكتار سنة 1990 وصولا إلى 456 ألف هكتار سنة 2018. مناطق الزراعات تتزود بمجموع 150770 مليون متر مكعب من السدود الكبرى و7760 مليون متر مكعب من السدود الجبلية وحوالي 174770 مليون متر مكعب من الابار العميقة و170200 مليون متر مكعب من الابار السطحية[7] وتكون النسبة الأقل متأتية من المياه المعالجة التي يتقدر ب 7190 مليون متر مكعب و1780 مليون متر مكعب من مصادر أخرى غير تقليدية إي بقيمة جملية تناهز 512472 [8]مليون متر مكعب. 

توزيع مصادر وكميات مياه الري بحساب المليون متر مكعب

زاد إهمال التصرف في المناطق السقوية التي على ملك الدولة من تعميق هذه الهيمنة حيث تبلغ مساحة هذه الأراضي حوالي 156160 هكتار، كما أن 60% من تجهيزات هذه المناطق متقادمة ويعود احداثها إلى ما يفوق 25 سنة وتشكو عما يزيد عن 612 منطقة سقوية تبلغ مساحتها 155861 هكتار من تهالك منشآتها وقنواتها وتواتر الأعطاب فيها مما فاقم كمية المياه الضائعة على مستوى [9]شبكات الجلب والتوزيع، فخلال الفترة الزمنية بين سنة 2013 و2019 مثلت نسبة المياه الضائعة   43% من كمية المياه المستغلة. 

كذلك الحال بالنسبة الأراضي الفلاحية المهيكلة والمتمثلة في الأراضي الفلاحية الدولية (أراضي الاحباس، أراضي المعمرين …) التي ناهزت حوالي 500 ألف هكتار[10] والموضوعة تحت تصرف شركات الإحياء (SMVDA) أو بقايا التعاضديات والتي لم تصرح بنسبة استغلالها للموارد المائية. كل هذه المعطيات تثبت حقيقة الهيمنة الفلاحية على الموارد المائية ولم يقع تحيين السياسات الفلاحية لتواكب مقتضيات كل مرحلة مائية لتفادي الاستغلال المفرط للموارد الذي ناهز نسبة 80%. 

الإطار المؤسساتي لمياه الشّرب جزء من الأزمة الهيكلية 

الهياكل المعنية بالوسط الحضري      

تعتبر الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه المحدثة بمقتضى القانون عدد 22لسنة 1968 المؤرخ في 02 جويلية 1968 والمنقح بالقانون عدد 21 لسنة [11]1976 ثاني الهياكل تحت اشراف وزارة الفلاحة تعهد له مهمة توفير الماء الصالح للشرب في كامل تراب الجمهورية واستغلال وصيانة منشأة جلب الماء ونقله وتنظيفه وتوزيعه. هذه المؤسسة ليست بمنأى عن تعميق الإشكاليات التي تواجهها الموارد المائية، بدءًا بالتصرف الإداري والمالي فهي تفتقر إلى القوة العاملة اللازمة، كما أن الشركة لم تستجب لتوجهات المنظمة العالمية للصحة التي أقرت بخطورة استعمال مادة الرصاص ومع ذلك تثبت البحوث أن الرصاص يمثل أحد مكونات شبكات توزيع المياه[12].  ثم إن اهتراء الشبكة (البالغ طولها 46674 كلم) يكلف خسارة ونسبة ضياع كبيرة للموارد المائية، فالمعايير المعتمدة من قبل الشركة نظرياً تقتضي تجديد الشبكة القديمة كل 50 سنة، بحيث يستوجب تجديد 900 كلم من القنوات سنويا في حين أن [13]التجديدات الحاصلة لا تتجاوز 200 كلم سنويا وهو ما يفترض 220 سنة لاستكمال التجديد الكلي للشبكة. 

الهياكل المعنية بالوسط الريفي 

أما وضعية الهياكل المتواجدة في الوسط الريفي تعتبر أكثر حدة على مستوى الإشكاليات، فمنظومة المجامع المائية التي تميزت بفشل تام على جميع الأصعدة لا تزال تحافظ على مهمة تسيير الموارد المائية سواء كانت المعدة للشرب أو للري، حيث يوجد ما يقارب 1234[14] مجمع مائي ناشط في مجال الري ويقوم بتزويد 88%[15] من المساحة الجملية للمناطق السقوية العمومية، من مجموع 2500 مجمع مائي[16]. كما أن أغلب هذه المجامع لا تستوفي الشروط القانونية في التزاماتها المالية خاصة، مما أدى إلى ارتفاع نسبة المديونية والمقدرة بحوالي 16 مليون دينار سنة 2019. وحسب ما أدلت به تقارير محكمة المحاسبات أن 52% من مجمل هذه المجامع [17]تتمتع بالتزود بمياه الري دون سند قانوني وأن وزارة الفلاحة لم تتخذ أي اجراء في الغرض. 

الأزمة المائية والتغييرات المناخية 

يعتبر التغير المناخي من أهم التحديات الرئيسية التي تشهدها الموارد المائية والتي تترجم في تقلص نسبة التساقطات وارتفاع درجات الحرارة، كما تشير أغلب الدراسات أن درجات الحرارة سوف ترتفع إلى معدلات قياسية خلال السنوات المقبلة. قد شرعت أغلب البلدان في التخطيط لمواجهة التطرفات المناخية منذ عشرات السنوات على خلاف البلاد التونسية لم تولي لهذه المشكلة الحتمية الأهمية الكافية ولم تبني مخططاتها المستقبلية لتشمل تبعات التغيرات المناخية. لكن عندما أصبحت هذه التطرفات واقعا معاشيا، شرعت بعض المؤسسات التابعة للدولة في السنوات القليلة الماضية في انجاز بعض الدراسات، على غرار المعهد الوطني للرصد الجوي باعتباره المؤسسة المسؤولة عن دراسة المناخ وتقييمه والتي أقرت أنه تم العمل على ما يقارب 14 نموذجا مناخيا إقليميا لعناصر [18]التساقطات المطرية حيث تعتمد نتائج هذه النماذج لتطوير توقعات المناخ. 

الإطار التشريعي لا يعكس واقع المنظومة المائية

رغم أن البلاد التونسية كانت سابقة في وضع ترسانة قانونية منظمة ومهيكلة للموارد المائية، حيث مثلت مجلة المياه لسنة 1975 أهم الأطر القانونية للمنظومة المائية، إلا أن هذا الإطار سرعان ما برزت نقائصه واخلاله بالمنظومة المائية. وذك نتيجة لغياب قواعد الحوكمة الرشيدة في التصرف والاستغلال المفرط والمكثف للموائد المائية الجوفية الذي فاق الطاقة المسموح بها وذلك لعدم شمولية أحكام مجلة المياه للكميات المسموح باستخراجها، كذلك تدهور نوعية المياه اعتبارا لتعدد مصادر التلوث وانعكاسات السحب الجائر[19] الذي أدى إلى تملح المياه.  بالإضافة إلى غياب البرمجة المندمجة للثروة المائية على الصعيد المحلي والجهوي والوطني وعدم تنظيم الحفر والتنقيب عن المياه مما مكن من النفاذ إلى الموارد بسهولة وخلف اضطرابات كبرى في التوازنات المائية. كذلك تغييب مساهمة المجتمع المدني في عملية التصرف المندمج وتغليب طابع الفردانية في أخذ القرارات وعدم تحيين الجانب الردعي المتعلق بالجرائم والعقوبات منذ صدور مجلة المياه، كل هذه العوامل ساهمت في استفحال ظاهرة الاعتداء على الملك العمومي للمياه. 

أي بدائل ممكن لمواجهة الأزمة المائية 

رغم وجود العديد من الاشكاليات للموارد المائية إلا أن البدائل لازالت قائمة لتحسين وضعيتها ولابد من إيجاد الحلول للتوازن بين القطاعات وتوجيه السياسات الفلاحية وفقا للمقدرات المائية      

سياسة فلاحية مبنية على واقع الموارد المائية  

لقد عملت البلاد التونسية منذ عقود على تبني سياسة تشجيع الاستثمار في مجال الفلاحة من خلال تقديم التشجيعات والحوافز انصياعا لبرنامج الإصلاح الهيكلي[20] وإدخال قطاع الفلاحة في ضمن الاقتصاد الحر، حيث تم نتقيح القوانين اكتساب الملكية وبعث الصناديق الاستثمارية مما أدى الى تحويل الفلاحة من طابعها المعيشي الى فلاحة استثمارية قائمة على المردودية الربحية. يجب ان تأخذ       هذه السياسة اليوم      في اعتبارها المقدرات المائية للبلاد من خلال التقليص من الزراعات المروية والتعويل على الزراعات البعلية وبعث برنامج التشجيع على الفلاحة المعاشية يحتوي على دعم صغار الفلاحين عبر تسهيل الاقتراض وتحسين قدرتهم على الإنتاج الموجه نحو الاستهلاك الوطني.

يجدر إعادة النظر أيضاً في نمط الزراعات التصديرية لكبار المستثمرين والزامهم باعتماد مصادر المياه الغير التقليدية على غرار المياه المعالجة والمياه المحلاة. كما يجب التوجه الى تقييد ثم منع تصدير الزراعات المستهلكة للمياه خاصة الخضروات وتحديد قائمة [21]المنتوجات التصديرية اخذا بعين الاعتبار البصمة المائية.  

اعتماد المياه المعالجة 

تعتبر المياه المعالجة الحل الأمثل لمواجهة وتخفيف وطأة استنزاف الموارد المائية التقليدية، اذ تتجه أغلب البلدان اليوم ذات الشح المائي إلى تطوير أجهزة معالجة المياه وفق للمعايير والمقاييس التي تجعلها آمنة عند استخدامها وفي هذا الصدد تعتبر منظمة الأغذية والزراعة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة (FAO) أن مياه الصرف الصحي البديلة تعتبر الخيار الأنسب لمعالجة مشكلة ندرة المياه بعد أن كان التخلص منها يشكل تحديا. كما أقرت أن قطاع الزراعة مسؤول عن استنزاف نسب كبيرة من معدل سحب المياه العذبة في وقت يتزايد فيه الطلب على الغذاء[22]. وتماشيا مع هذا الطرح فإن استعمال المياه المعالجة في تونس أصبح ضرورة قصوى خاصة بالنسبة للزراعات تنفيذا للتوجه العالمي في سياسة الري المعتمد على المياه المعالجة اذ يكون من الأجدر إلزام المستثمرين باستعمال المياه المعالجة.

تجهيز البنية التحتية ودعم الإطار المؤسساتي 

تحتوي البلاد على بنية تحتية متواضعة مقارنة بحجم طلب القطاعات على استغلال الموارد المائية حيث يتم تعبئة حوالي 4.7 مليار متر مكعب سنويا من جملة 36 مليار متر مكعب كمعدل سنوي لهطول الأمطار كما هو مبين أسفله عن طريق السدود الكبرى المحدثة بداية من سنة 1945 إلى سنة 2019 والتي بلغت حوالي 37 سدا كبيرا وما يقارب 232 سد تلي و916 بحيرة جبلية وما يناهز عن 13 ألف بئر عميق و152 ألف بئر سطحي دون اعتبار الابار الغير مرخصة وتؤمن هذه المنشآت مياه الشرب [23]ومياه الري.

منشآت  تعبئة المياه في تونس 

 أظهرت البنية الكلاسيكية لتعبئة الموارد المائية مع مرور الوقت عديد الإخلالات وهو ما يصعب عملية تجهيزها وجهرها، لذلك يجب عدم الاعتماد الكلي في تعبئة الموارد المائية على السدود والاتجاه إلى أساليب أخرى تكون محلية وذات نجاعة على غرار الماجل أو ما يعرف بتقنية حصاد مياه الأمطار. 

تغذية المائدة المائية الجوفية 

تعتبر تغذية الموائد المائية الجوفية من بين الحلول التي يجب التوجه نحوها.  هذه التقنية تعتبر ذات جدوى عالية من ناحية التكلفة والنجاعة في المحافظة على الماء مقارنة بالطرق الأخرى. حيث أن المياه داخل الموائد المائية لا      تتعرض الى عملية التبخر بشكل كبير وتحافظ على جودة عالية للمياه المخزنة. على خلاف مياه السدود المكشوفة التي تتعرض إلى التلوث والتبخر بشكل دائم. وتثمن هذه التقنية أساسا مياه الأمطار -التي لا يقع تعبئتها ويكون مآلها البحر- عن طريق وضع حواجز في مواقع السيلان الموجهة للبحر والتي بدورها تقوم بتبطيء حركة مرور المياه من حيث المدة الزمنية وتعطي الوقت اللازم لإكتمال عملية الرشح وبذلك تتم تغذية المائدة الجوفية.

مشروع مجلة المياه وفق للمقاربة التشاركية كبداية الإصلاح 

كرست مجلة المياه لسنة 1975 أزمة مائية تجلت في اتساع دائرة العطش داخل أغلب مناطق الجمهورية واختلال التوازنات المائية، ورغم صعوبة تدارك هذه الوضعية بإقرار نظام قانوني ملم لجميع الإشكاليات سابقة الذكر إلا أن تكريس بعض المبادئ ضمن مشروع قانوني يأخذ بعين الاعتبار المقاربة التشاركية في إنجازه من شأنه أن يخفف وطأة أزمة العطش ومن هذه المبادئ: 

-التنصيص على القيمة الاجتماعية والبعد الحقوقي للماء فالبلاد التونسية صادقت على مجمل الصكوك الدولية والمعاهدات التي تقر بأن قيمة الماء ليس فقط مرتبطة بالجانب الاقتصادي أو المالي، بل بالجانب الاجتماعي و تنزله منزلة الحق في الحياة. حيث اعتبرته لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية منذ سنة 2000 شرطا لإعمال بقية الحقوق الأخرى وارتباطه بالكرامة البشرية. 

-التنصيص على مفهوم البصمة المائية والتي تظهر مدى استخدام المياه فيما يتعلق بالاستهلاك من قبل الناس. حيث يتم تعريف البصمة المائية للفرد أو المجتمع أو الأعمال على أنها الحجم الكلي للمياه العذبة المستخدمة لإنتاج السلع والخدمات التي يستهلكها الفرد أو المجتمع أو التي تنتجها الشركة. 

-تحديد الصيغة التعاقدية بين المستهلك ومسدي الخدمات ضمن صيغة نموذجية تحدد حقوق والتزامات كلا الطرفين في عملية التوزيع واستغلال المياه والقطع مع علاقة الإذعان التي تنظم عملية التوزيع وذلك بإقرار حق التعويض في صورة الإخلال بالالتزامات التعاقدية لصالح المشتركين.

-التنصيص على وجوب إستعمال المياه المعالجة وغير التقليدية من قبل الصناعيين ومنتجي الطاقة استعمال قبل اللجوء لاستعمال المياه التقليدية، كذلك وجوب الربط بين مجالات استعمال المياه في المجال الفلاحي وبين أولويات الإنتاج لتحقيق السيادة الغذائية الموجهة للإنتاج الوطني بالمناطق السقوية العمومية والمناطق المجهزة من قبل الدولة من خلال خارطة وطنية للإنتاج الفلاحي لترشيد استعمال المياه في المجال الفلاحي.

-التنصيص على وضع مخطط وطني يشمل كل المناطق الجغرافية للبلاد واستراتيجية وطنية واضحة قصد معاضدة كل الجهود الوطنية لمجابهة الفيضانات,  والتشريك الفعلي للجماعات المحلية عبر استقلالية قرارها داخل مناطقها الجغرافية وعبر تمكينها من تنفيذ مخططاتها المحلية وفقاً لخصوصيات كل جهة وبالتالي يكون التوقي من الفيضانات وطرق مجابهتها عبر مخطط محلي مطابق للمخطط الوطني. كذلك يجب القيام بحملات تنظيف لشبكات سيلان مياه الأمطار والعمل على جهر الأوساط المتلقية بصفة دورية وذلك للتحكم في مياه الامطار أو إعادة استعمالها في مجالات أخرى.

التوصيات 

على وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري أن تعمل على: 

  • فتح حوار وطني شامل يشارك فيه كل المتدخلين (مجتمع مدني، فلاحين، تقنيين، خبراء…) في الموارد المائية لتحديد الرؤى المستقبلية للماء وتكريسا للمقاربة التشاركية في أخذ القرارات. 
  • وضع استراتيجية وطنية للموارد المائية تأخذ بعين الاعتبار ترتيب استعمال المياه على أن تكون مياه الشرب ذات أولية. 
  • مراجعة المنوال الزراعي وفق لتحيين الخارطة الوطنية للإنتاج الفلاحي تأخذ بمبادئ السيادة الغذائية وتحقيق الاكتفاء الذّاتي ومراعاة الموارد المائيّة المتاحة.
  • الإسراع في إيجاد هيكل بديل للتصرف في مياه الشرب والري داخل الوسط الريفي.
  • إلزامية اعتماد المياه المعالجة الامنة في الزراعات الموجه أساسا نحو التصدير.
  • دعم الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ماديا وبشريا من أجل تحسين الخدمات وتركيز نظام رقمي لرصد التسربات المائية. 
  •      الاعتماد على تغذية الطبقات الجوفية والعمل على تعبئة أكثر ما يمكن من المياه عبر التشجيع على تقنية حصاد مياه الامطار. 
  • تنظيف وجهر السدود من الترسبات من أجل توسيع طاقة الاستيعاب.
  • على الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أن تعمل على: 
  • إلزام الشركات الصناعية المستعملة للماء وخاصة الصناعات الغذائية بدراسات جدوى مائية.  
  • التعهّد بالصيانة الدّوريّة لقنوات مياه الشرب، والعمل الفعلي على الحدّ من نسبة ضياع المياه في الشبكات

[1] التعليق العام عدد 15 اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، https://tbinternet.ohchr.org/_layouts/15/TreatyBodyExternal/Download.aspx?symbolno=E%2fC.12%2f2002%2f11&Lang=en[2]https://cc-tunisie.com/evolution-du-climat-et-projections-climatiques-en-tunisie/[3]عبد الكريم داود، خمسون سنة من سياسات إدارة الموارد المائية في البلاد التونسية: من إدارة العرض إلى الإنصاف الترابي، مجلة حكامة، العدد3، سبتمبر 2021، ص 10.[4]البنك الدولي https://data.albankaldawli.org/indicator/ER.H2O.INTR.PC[5]ياسين النابلي، أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السّير الأعرج وراء مزمار بورقيبة، المفكرة القانونية، https://legal-agenda.com[6]plans directeurs des eaux 1998,http://www.onagri.tn/uploads/docagri/10735.pdf [7]  التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar [8]  التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar [9]  التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar [10]  الأراضي الفلاحية المهيكلة، تقرير محكمة المحاسبات، 26ديسمبر 2018، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar [11]  موقع الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، https://www.sonede.com.tn/ar [12] http://www.courdescomptes.nat.tn[13]  محكمة المحاسبات، الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، 11 ديسمبر 2012، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar [14]  مرجع سابق، التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar[15]  مرجع سابق، التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar[16]   ناجح بوقرة، حوكمة الحوكمة المائية، نواة، 06 جويلية2017، https://nawaat.org/2017/07/06 [17]  مرجع سابق، التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar[18]  التغييرات المناخية، المعهد الوطني للرصد الجوي، https://www.meteo.tn/ar/changement-climatique [19] التصرف في مياه الري، تقرير محكمة المحاسبات، 21 فيفري 2021، http://www.courdescomptes.nat.tn/Ar[20]https://www.annaharar.com/arabic/makalat/annahar-alarabi-authors/27062022092033070[21]https://www.watchwater.tn/ar/blog/2020/3/13/57-lbsm-lmy/[22]  مياه الصرف الصحي أصبحت خياراً لمعالجة مشكلة ندرة المياه بعد أن كان التخلص منها تحدياً، منظمة الأغذية والزراعة العالمية، https://news.un.org/ar/story/2017/01/269002 [23]  مرجع سايق، عبد الكريم داود، خمسون سنة من سياسات إدارة الموارد المائية في البلاد التونسية: من إدارة العرض إلى الإنصاف الترابي، مجلة حكامة، العدد 3، سبتمبر 2021، ص 18-19.

المراجع الببليوغرافية
المساهم

رامي بنعلي

رامي بنعلي مختص في القانون الخاص وباحث في السياسات المائية و الفلاحية.

العودة إلي أعلى