بحث

جار التحميل...
مشاركة

ملخص تنفيذي

تُعتبر قضيّة الولوج الى الأرض  مسألة جوهريّة في القطاع الفلاحي وكذلك ضمن التحولات التي يمر بها المجال الريفي عموما. لذا يُعتبر حل هذه المعضلة في تونس من الخطوات الضروريّة للتمكن من تحقيق سياسة زراعية وغذائية سيادية. ومن الضروري هنا  تتبع تاريخ عمليّة انتزاع الأرض و آثارها على المجال الريفي والتبعيّة الغذائيّة والتوجهات السياسية للبلاد بغاية  التخطيط لبديل أكثر ديمومة.

تحاول هذه  الورقة  السياسية اتباع هذا التمشي مع طرح بعض التوصيات التي تهم مختلف مؤسسات الدولة وصانعي القرار السياسيّ.

مقدمة

منذ  اندلاع الثورة ضد “الدكتاتورية القديمة” ، تعالت العديد من الأصوات مطالبة بالعدالة الاجتماعية والكرامة والتشغيل. لا ريب في أن المطالب الاجتماعية والاقتصادية وتلك المتعلّقة بحرية التعبير كانت الأكثر حضورا، غير أن أصواتا أخرى-لا تقّل أهميّة- قد ارتفعت، ضد أشكال أخرى من الحيف واللامساواة.

منذ ديسمبر 2010 وحتى نهاية سنة 2013 ، استعاد السكان في المناطق الريفية حوالي  100000 هكتار من الأراضي ، بدعوى أن هذه الأراضي تعتبر حقّهم  المشروع[1]. وعلى طول المجال الترابي التونسي ، تقاطرت جموع الفلاحين والعملة الزراعيين وغير مالكي الأرض   نحو ما اعتُبر “أراضي الأجداد” (كما هو الحال في جمنة ، الدهماني …). بعد عشر سنوات استعادت الدولة أكثر من 80٪[2] من جملة هذه الأراضي ، وهو ما يمثل  امتدادا لسياسة انتزاع الأراضي  واستمرارا لمواجهة دامت عقودا مع الدولة.

تُعدّ عملية نزع ملكية الأراضي في الواقع تواصلا لمسار تاريخي، تمنح فيه  الأقلية الحاكمة لنفسها الحق في تعميق سيطرتها على وسائل الإنتاج التي تعزز احتكارها للريع الناتج عن الأراضي.

التصرف في الأراضي في تونس المستقلة ونتائجها

يعتمد التصرف في الأراضي في تونس منذ الاستعمار الفرنسي إلى اليوم  بشكل أساسي على سلب الأراضي، وتعتبر عملية الاستيلاء شكلا من الأشكال المختلفة لمراكمة الثروة عن طريق انتزاع الأراضي الذي يؤثر بشدة على طبقات المزارعين وعلى المجال  الريفي  عموما من خلال حرمان هذه الطبقات من حق الولوج  إلى الموارد ووسائل الإنتاج الرئيسية. يُضاف إلى هذا، خلق الفوارق الجهويّة والتفاوت الاجتماعي، التي تؤدي بدورها إلى تفاقم التبعية الغذائية للبلاد، إذ أن حرمان هؤلاء المنتجين من أراضيهم ينعكس مباشرة على الإنتاج الذي يغذي  السوق المحلية.

انتزاع الأراضي  كمسار تاريخيّ منذ الاستعمار إلى اليوم

الاستعمار الفرنسي

جدّ تحوّل مهم في احتكار الملكيّة العقاريّة مع انتصاب الاستعمار الفرنسي. فمنذ سنة 1881، وعبر إنشاء السجل العقاري، عملت  فرنسا الاستعمارية على فرض الملكية الخاصة للأراضي بهدف تفكيك الهياكل الاجتماعية القائمة محليّا أي “العرش” (القبيلة) وغيرها عبر سيطرتها على الأراضي التشاركيّة للقبائل[3]. وفي الآن نفسه بدأ المعمّرون في ابتياع الأراضي من الأوليغارشيا  التونسية التي كانت تمتلك الأراضي الأكثر اتساعا بأثمان زهيدة حيث كان مالكو الأراضي  متغيبين  عن مباشرة الإشراف على أراضيهم وينوبهم عدد من المشرفين . وفي سنة 1898، و بموجب أمرعليّ فرض تسليم 2000 هكتار سنويًا إلى أراضي “البايليك[4]”، تمدّد الاستعمار إلى أراضي “الأحباس[5]” (الأوقاف). وقد تم توطيد هذا الاحتكار بوجه خاص في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر  عبر مكننة الزراعة ثم تغيير نمط [6]الإنتاج التقليدي أي “الزراعة الجافة” dry farming، إلى نمط الإنتاج المكثف والإستنزافي  الذي يتطلب استغلال المزيد من الأراضي. وهكذا تواصلت عملية انتزاع الملكية من خلال تأجير الأراضي والمشاركة في المحصول وغيرها من الطرق التي  عبّر عنها “ج. بونسي” [7]بأن :”[التأجير] لا يعدو  أن يكون إلا غرفة الانتظار نحو البيع النهائي”.

ما بعد  الإستقلال

في سنة 1956، أعلنت تونس استقلالها على إثر حركة تحرر وطني قامت به  جبهتها المسلحة وجبهتها السياسية / الدبلوماسية. وكان المعمرون الفرنسيون في ذلك الوقت يمتلكون مساحة تقدّر ب850 ألف هكتارا[8] يستغلّها3750 مستوطنًا. وبعد مرور سنة من الاستقلال بقي المستوطنون مستحوذين على 785 ألف هكتار. ثم في ماي 1957، تمكّنت تونس من استعادة 127 ألف هكتار على الحدود الجزائرية مع تعويض المستوطنين الذين “يمتلكونها” على إثر مفاوضات مع السلطات الفرنسية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى سنة 1964، علّقت فرنسا المفاوضات مع الجانب التونسي مواصلة ممارسة سلطتها الإمبريالية لفرض التبعية من خلال منع المساعدات المالية المقرّرة للحكومة التونسية. في سنة ،1964 تمكّنت تونس عبر قانون 12 ماي 1964 من تأميم 300 ألف هكتار[9]، وتم شراء الباقي من قبل القطاع الخاص والأثرياء التونسيين ،الذين قاموا  بدفع المال للمستوطنين الذين هاجروا من البلاد إثر الاستقلال. وهكذا تمّ نقل الملكية لتجد الدولة نفسها المستحوذ الأكبر على الأراضي.

 و بذلك واصلت الدولة حرمان الفلاحين من حقوق ملكيّتهم السابقة للاستعمار واستولت على أراضيهم التي كافحوا من أجل تحريرها.

التجربة التعاضديّة

لم تتوقف سياسة التجريد من الملكية التي قامت بها دولة الإستقلال عند هذا الحد، حيث دعت الدولة إلى تحديث الزراعات وتكثيفها زاعمة أن صغار الفلاحين/ات لن يقدروا/ن على تطبيقها بأنفسهم، وقد ألزمتهم/هن سياسة حكومة “أحمد بن صالح[10] ” بالإنخراط في التعاضديات الزراعية بموجب قانون 8 ماي 1963، الذي ينص على أنه يتوجب على جميع مالكي الأراضي الإلتحاق بالوحدات التعاونيّة للإنتاج الفلاحي أو بيع / تأجير أراضيهم لهذه الوحدات نفسها. وشرعت السياسة التي تبنتها السلطة المركزية في فرض رؤيتها على المجال الريفي بحيث أحصت الدولة في سنة 1969  700 تعاضدية زراعية تغطي 600 ألف هكتار من بينها 330 ألف هكتار كمساهمة من الفلاحين والفلاحات الذين يمتلكون أراضي تشمل أقل من 6 هكتارات لكل أسرة، أما الباقي فكان مساهمة من أملاك الدولة[11]. بهذه التجربة، اعتبر الفلاحون/ات أنفسهم مجرد بروليتاريا  تُدفع لها أجرة يومية مقابل استغلال أراضيها الخاصة.

من جهة أخرى، كانت مساهمة كبار ملاك الأراضي منعدمة تقريبًا، فقد نجت هذه الطبقة المهيمنة من التجربة واستمرت في ممارسة نشاطها الفلاحي بطريقتها، بل وشاركت في استغلال طبقة الفلاحين/ات بنفس الطريقة التي كانت تتبعها الدولة.

إلغاء التعاضد ومسار لبرلة  الاقتصاد

في مطلع السبعينات، شرعت تونس في تبنّي توجه اقتصادي جديد، ينقلها من رأسمالية الدولة إلى   لبرلة الإقتصاد.

كانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي التخلي عن تجربة التعاضد الزراعي بشكل أساسي والعودة إلى الملكية الفردية. فقد قررت الدولة التونسية المتشبعة بهذه الأيديولوجية الليبرالية الجديدة إعادة هيكلة  سوق الأراضي من خلال تحديد مجالها ب330 ألف هكتار وبيع الباقي للقطاع الخاص. اتجهت هذه الإصلاحات نحو مزيد من “اللبرلة” مع برنامج الإصلاح الهيكلي الموقع  سنة 1986 مع صندوق النقد الدولي[12]، كما أن الفلاحة تخضع أيضًا لبرنامج PASAprogrammes d’ajustement structurel agricole (برامج إعادة الهيكلة الفلاحيّة) وهي موجهة بشكل أكبر نحو نمط الإنتاج الاستخراجي المكثف، الذي لم يعد هدفه توفير الاكتفاء الغذائي بل أساسا تحقيق  الأمن الغذائي وضمان الإنتاج المخصص للتصدير.  حثت  هذه السياسة، التي تهدف إلى تشجيع الاستثمار الزراعي، الدولة على تعبئة موارد عقاريّة أخرى ضرورية لهذا النمط من الإنتاج. ففي هذا الإطار يندرج قانون [13]1988 الذي  يهدف إلى تصفية الأراضي القبلية والإشتراكيّة عبر إزالة الحواجز القانونية التي تحميها وفتح الباب أمام رأس المال للاستيلاء عليها.

منذ بداية التسعينيات، استمرت تصفية أملاك الدولة لصالح القطاع الخاص. وهكذا ، كان لدى تونس في نهاية سنة 2001، 145 ألف هكتار من الأراضي التي تتبع للSMVDA (شركات الإحياء  والتنمية الزراعية) (226 شركة ، أي بمعدل 642 هكتارًا لكل شركة)، و 50 ألف هكتار من قطع الأراضي للتقنيين (600 قطعة من 83 هكتار في المتوسط) ) و  15 ألف هكتار فقط من الأراضي المخصصة للفلاحين الشبان (1850 قطعة  بمعدل 8 هكتارات للقطعة). أما الباقي ، ويمثّل 210  ألف هكتار، فقد تم التعهد به لعمليّات إعادة الهيكلة أو ربما [14]تأجيره لرأس المال الخاص. “

ثورة 2010-2011

مع الثورة، برزت موجة كبيرة من حركات استرداد  الأراضي في المناطق الريفية، ودفع السياق الثوري عددًا كبيرًا من الأفراد والجماعات [15]للعودة إلى أراضيهم، في جمنة وسيدي بوزيد وقفصة وفي كل مكان على التراب التونسي.

بين سنتي 2012 و 2016 ، بدأت السلطات التونسية عملية استعادة الأراضي محل النزاع، والتي تنامت وتيرتها عبر السنوات، مما يؤكّد أن سياسة انتزاع الملكية ظلّت كما هي دون تغيير. في بداية هذه الفترة لم تستطع الدولة أن تلجأ إلى القوة العامة في مواجهة هذا التيار  الثوري هذا  فانخرطت في المسار التفاوضي. لكن على إثر انتخابات سنة 2014 تغيرت المقاربة  بوصول حزب “نداء تونس” إلى السلطة،  الذي ركز في برنامجه على إعادة “هيبة” الدولة، وبالتالي آثر حلّ هذا الصراع بالقوة[16]. تزامنت هذه العودة إلى التصلب بشكل مباشر مع الرجوع إلى سياسة الزبائنية الليبرالية التي وضعت مقاليد التحكم في الأراضي  بأيدي المستثمرين والمستثمرات الدائرين/ات  في فلك السلطة، كما كان الأمر عليه قبل الثورة.

أما اليوم، فلا تزال نسبة قليلة من الإستثمارت الفلاحية تحت إدارة مجموعات وأفراد يستمدون تاريخيا مشروعية ملكيتهم للأرض، وقد أعادت الدولة فرض سلطتها على هذا الريع من خلال اللجوء إلى عمليات الاستيلاء نفسها.

النتائج الناجمة عن انتزاع الأراضي في تونس

اللامساواة الاجتماعية

ليس التفاوت الاجتماعي الذي يظهر عبر انقسام المجتمع بين فقراء وأغنياء بالحالة الطبيعية، فهذه الظاهرة هي نتيجة مرحلة طويلة من انتزاع ملكية الشعوب لوسائل إنتاجها لصالح أقلية صغيرة.

وكما بُيّن سابقًا، فقد تم تجريد سكان الريف من أراضيهم لصالح المستثمرين و الأوليغارشيا  باستخدام هذا المورد من أجل مراكمة الأرباح. وفي الأثناء ، أُجبر المواطنون المهمشون على الهجرة إلى المدن الكبرى حيث يتسنى لهم العثور على عمل يومي. أدت موجات الهجرة الداخلية هذه إلى إنشاء أحياء فقيرة و أحزمة حول المدن  المكونة بشكل رئيسي من فلاحين/ات سابقين/ات، و التي  لم تستفد من التنمية الحضرية.

ولم يكن الوضع أفضل بالنسبة للذين خيرو البقاء لإستغلال قطع الأرض الصغيرة الذين تمكنوا من الاحتفاظ بها . فقد وجد   هؤلاء الفلاحون الذين يستغلون قطعا لا تزيد على 10 هكتارات أنفسهم في منافسة مع كبار الفلاحين الذين استحوذوا على الأرض و  على رأس المال، إضافة إلى قدرتهم على الاستثمار وتطوير فلاحتهم وبالتالي القدرة على إنتاج المزيد. هذه المنافسة اللامتكافئة لا تقف عند هذا الحد لأن السياسات الفلاحية في تونس تدعم هؤلاء المنتجين الكبار (عبر قوانين تشجع على الاستثمار الزراعي)، وكذلك عبر البنوك التي تمنحهم قروضا لا توفرها لصغار الفلاحين الذين يعتبرون من الفئات الهشة المعرّضة للخطر.

التبعيّة الغذائيّة

منذ أوائل الثمانينيات، ومع التحول الذي طرأ في السياسات الزراعية، تفاقمت التبعية الغذائية التونسية  للغرب. وكان الاستيلاء على الأراضي رافدا أساسيًا في وضع هذه السياسات التي ركزت قبل “برنامج إعادة الهيكلة الفلاحية” (PASAprogrammes d’ajustement structurel agricole ) على سياسة الاكتفاء الذاتي الغذائي الذي يعتمد على الإنتاج المحلّي وبالتالي دعم جميع المنتجين المحليين (صغار ومتوسطي وكبار المنتجين). أما بعد برنامج إعادة الهيكلة، فقد اعتمدت هذه السياسات على مفهوم “الأمن الغذائي” الذي يشجع على تصدير المنتجات على أساس مزاياها التنافسية.

ومنذ سنة 1986 وبتوقيع برنامج إعادة الهيكلة، وجد كبار المستثمرين والمنتجين الزراعيين أنفسهم في وضعية مثالية عبر تشجيع الدولة ودعم البنوك وسياسة انتزاع الملكية التي وفرت لهم المزيد من الأراضي[17]. وبالتوازي ، وجد الفلاحون الصغار والمتوسطون ممن  يوجهون  إنتاجهم للسوق المحلي أنفسهم مهمشين بسبب هذه المنافسة غير المتكافئة، هذا بالإضافة إلى سياسة مصادرة الأراضي. بذلك وجدت تونس نفسها لا تمتلك سوى القليل من الوسائل الأساسية للإنتاج المحلي وبدأت في استيراد المزيد، مما فاقم تدريجياً من تبعيّتها الغذائيّة. ومن المهم أيضًا التأكيد على أن هذا الانفتاح على السوق العالمية يخضعها لخطر تقلّب الطلب والأسعار في السوق وبالتالي عدم القدرة على اتخاذ قرار سيادي بشأن أسعار المنتجات التي سيتم تصديرها أو استيرادها.

الفلاحة الإستنزافية والتغيّر المناخي

من خلال هذه السياسات الفلاحية الموجهة أساسا للتصدير، يقوم المستثمرون وكبار المنتجون، الذين راكموا الأرض ورأس المال، بإستغلال الأراضي بصفة استنزافية  لضمان قدرة أعلى من المردودية بإعتبارهم أن الموارد الطبيعية “لا متناهية”.  ويتعلق الأمر أساساً بالمنتجات الفلاحية التي تتطلب كميات كبيرة من المياه والمحاصيل التي تنتج خارج دورتها الموسمية التقليدية. وقد مكنت الدولة هؤلاء المستثمرين من الإستغلال المفرط للمائدة المائية لإنجاح فلاحتهم.  في الآن ذاته تستخدم هذه المنتجات بشكل مفرط آلاف الأطنان من المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية من أجل تكثيف الإنتاج عبر تغذية التربة والزراعات، ويُعرف عن مثل هذه  التقنيات أنها تؤثر بشكل سلبي على الموارد الطبيعيّة. كما يعتمد هذا النموذج الإنتاجي المكثف على الجانب الإستنزافي، إذ يُعتبر أيضًا أحد العوامل الرئيسية المتسبّبة في التغير المناخي. أشار العديد من الخبراء والباحثين إلى تداعيات هذا النموذج الإنتاجي باعتباره كارثة على البيئة كما ورد في تقرير مجموعة الخبراء الدوليين حول التحولات المناخية لسنة 2014 و أكده المؤتمر الصحفي لنفس المجموعة حول [18]التقرير الجديد لسنة 2021، حيث تساهم الأنشطة الزراعية بنسبة 24٪ من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

الإصلاح العقاري

يجب أن يكفل الإصلاح العقاري، إذا اعتمدنا مبدأ السيادة الغذائية، حق النفاذ إلى الأراضي واستغلالها لكافة مكونات المجال الريفي  وإدارتها من قبل  مستغلين حقيقيين، يضعون نصب أعينهم مبدأ توفير الغذاء للسكان في المقام الأول لا مراكمة الأرباح. وفي نفس السياق، على عمليّة الإصلاح العقاري أن تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحليّة والاجتماعية وأن تكون جزءًا من إصلاح فلاحي أوسع لضمان نجاح أوفر للعملية ومنح أكبر قدر من الحقوق للفئات الأكثر تهميشًا .

كما يجب أن يستند هذا الإصلاح إلى منظور يقطع مع الأساليب القديمة للإنتاج الإستنزافي و يتجه أكثر نحو الفلاحة المحلية والمستدامة التي تحترم حقوق الأجيال القادمة.

نفاذ أكثر عدالة للموارد العقارية

للتخلي عن النمط التقليدي من الإعانات الدائمة المخصّصة للفئات المهمشة ،على الإصلاح معالجة مصدر اللامساواة، وهو عدم قدرة المنتجين  الحقيقيين على النفاذ إلى الأراضي.

على الإصلاح هنا أن يتبع مقاربة سياسية لصالح الفئات الأكثر حرمانًا وتهميشًا، حتى يمكن لهم استرجاع وسائل الإنتاج والعيش بكرامة.

يمكن كخطوة أولى، اعتماد سياسة لإعادة توزيع الأراضي الفلاحية ضمن مجال الأراضي الدولية. حيث يتم اختيار المستفيدين وفقًا للمعايير الإجتماعية والاقتصادية وعلى اعتبار حقوق أسلافهم في الملكية كذلك.

بعد ذلك، تتم مراجعة سياسات الدعم وفقًا لهذه المعايير نفسها.

كما من الضروري طرح  قضية المساواة بين الجنسين   خلال إعادة التوزيع  عبر  مناقشة الإصلاحات الضرورية لقوانين الميراث والملكية من أجل نفاذ أكثر إنصافًا وشمولاً للمرأة. ولا ينبغي على هذه الإصلاحات أن تقتصر على الجانب التشريعي فقط بل  يجب أن تُوضع السياسات اللازمة لمكافحة هذا التمييز ثقافيًا (إذ بالرغم من التشريعات القائمة حاليا، فإن النساء لا تمتلك سوى 4 ٪ من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية)[19].

خطوة نحو تغيير أساليب الإنتاج

 لا يمكن أن يتم التحول نحو الزراعة المستدامة التي تحترم البيئة  دون مواكبة  التغيرات العالمية. ففي تونس كما هو الحال في بلدان أخرى لا تغيب  الدعوات التي تنادي بهذا التغيير. وتُعد عملية استعادة الأراضي خطوة لازمة للإصلاح الزراعي الذي يتبنى هذا النظام الإنتاجي الجديد ولكنه أيضًا دعامة رئيسية ضد  تغير المناخ والحفاظ على الموارد واحترام حقوق الأجيال القادمة.

الفلاحون والفلاحات هم المحرك الرئيسي لهذا التغيير، لأن نمط إنتاجهم متوافق مع النموذج المحلي والشامل، كما أنهم الأكثر قدرة على التكيف مع التحديات المناخية لأن هذه الفئة الاجتماعية عرفت التأقلم دائما مع الإنتاج المنسجم مع الطبيعة ومواردها المتاحة. فقد استخدم الفلاحون، قبل إدخال الزراعة المكثفة، بذورا محلية بدون مدخلات كيميائية مع الحرص الصارم على عدم استنفاذ الموارد المتاحة. إذ على عكس المستثمرين الذين ينتجون من أجل تراكم الأرباح،  ينتج الفلاحون  من أجل توفير الغذاء.

الإصلاح الزراعي كركيزة أولى للسيادة الغذائية

من خلال الانخراط في نظام الإنتاج الجديد، يسمح إصلاح نمط الملكية بتركيز السيادة الوطنية في مجال الإستهلاك وتمكين البلاد تدريجياً من الخروج من تبعيتها الغذائيّة. ليصبح التركيز على الإنتاج الداخلي وفقًا للاحتياجات الوطنية نوعا من الالتزام الذي لا يمكن أن يتم إلا من خلال تشجيع المنتجين الصغار والمتوسطين. فهؤلاء المنتجون نفسهم هم الذين وفروا منتجاتهم دائمًا للسوق المحلي (حتى 80٪) في جميع الظروف وضمنوا، على عكس المستثمرين، الإمداد الغذائي للمستهلكين بالمواد الأساسية.

التوصيات

لضمان نجاح الإصلاح العقاري، يتعين عليه أن يكون جزءًا من إصلاح زراعي جذري واسع لا يضمن فقط النفاذ إلى الأرض ولكن كذلك النفاذ إلى جميع وسائل الإنتاج للفلاحين عبر رؤية سيادية تهدف إلى توفير الغذاء للسكان، لا تجميع وتركيز الربح. تتلخص الخطوات والتوصيات الرئيسية في الآتي:

وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية

  • تطوير استراتيجية لإعادة توزيع الأراضي بطريقة تضمن النفاذ العادل إلى هذا المورد من خلال منح الأولوية للمستغلين الحقيقيين للأرض، أي الفلاحين/ات وصغار المزارعين/ات. كما يجب أن تأخذ عملية إعادة التوزيع في الاعتبار الجانب الجندري وأن تستهدف الفئات الأكثر تهميشًا.
  • تحديد حجم أقصى للأراضي المملوكة فرديا لضمان توزيع أكثرعدلاً.
  • على الأراضي القبلية أن تخضع لنظام الملكية المشتركة، مع منع إدماجها في سوق العقارات من أجل ضمان حق الإستغلال والتصرف المشترك.

الإدارة العامة للغابات:

  • حماية ملكية الغابة ومنع تصفيتها وتفكيكها مع ضمان حقوق الانتفاع بها لسكان المنطقة.

وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري

  • إضافة إلى إعادة توزيع الأراضي، يتعين أيضًا “إلغاء تحرير” وسائل الإنتاج الأخرى مثل الموارد المائية والبذور وإعادتها إلى صغار ومتوسطي الفلاحين من أجل توفير قدر أكبر من الإستقلالية لهم.

وكالة النهوض بالاستثمارات الزراعية بالتنسيق مع الإدارة العامة للدراسات والتشريعات الجبائيّة:

  • سحب الإعانات المخصصة لكبار ملاك الأراضي وفرض جملة من الضرائب عليهم وإعادة ضخ هذا التمويل لدعم المستفيدين من إعادة عملية التوزيع. 

[1]  ‘We had to get our land back’: Tunisian date farm proves revolutionary bright spot’, layli Foroudi Thomson Reuters Foundation, Thursday, 17 December 2020 https://www.reuters.com/article/us-tunisia-uprising-land-idUSKBN28R0GH [2] نفس المصدر السابق [3]  S.Hafedh, Pouvoir urbain et paysannerie en Tunisie, Cérès Productions 1992, p18 [4] الأراضي التي يمتلكها الباي [5]  مؤسسة في القانون الإسلامي تمكن مالك العقار من جعل عقاره غير قابل للتصرف وتسخيره لصالح عمل خيري أو منفعة عامة. [6]  نمط من الإنتاج الفلاحي في المناطق القاحلة، يعتمد على تخزين الماء داخل التربة لمدة سنتين متعاقبتين للحصول على محصول جيد، إذ قد لا تمكن التساقطات المائية لمدة سنة واحدة من توفير المياه اللازمة. [7]  AJUSTEMENT STRUCTUREL, MONDIALISATION ET AGRICULTURE FAMILIALE EN TUNISIE, Mustapha Jouili p118. [8]  S.Hafedh, Pouvoir urbain et paysannerie en Tunisie, Cérès Productions 1992, p20 [9] Idem, p23 [10]   أحمد بن صالح كان وزيرا للاقتصاد والتعليم وكاتب دولة للتخطيط والمالية في تلك الفترة وهو الذي أعلن عن التجربة التعاضدية في تونس. [11]  Ayeb, H. and R. Bush. Food Insecurity and Revolution in the Middle East and North Africa: Agrarian Questions in Egypt and Tunisia (London: Anthem Press, 2019) p106 [12] نفس المصدر السابق[13]  القانون عدد 5 لسنة 1988 المنقح والمتمم للقانون عدد 28 لسنة 1964 المتعلّق بتنظيم الأراضي الإشتراكية https://www.pist.tn/jort/1988/1988F/Jo01288.pdf [14]  M.ELLOUMI, Les terres domaniales en Tunisie Histoire d’une appropriation par les pouvoirs publics, p14 [15]  Alia Gana, Maouen Taleb. Mobilisations foncières en Tunisie : révélateur des paradoxes de l’après “ révolution ”. Confluences Méditerranée , l’Harmattan, 2019, Agriculture et politique : des champs d’insécurité, pp.31-46 [16]  Mourad S,  Récupération par l’Etat de 10 et 16 hectares de terres respectivement dans les délégations de Boussalem et Dahmani,Tunisie Numérique, 04 /07/2017 https://www.tunisienumerique.com/tunisie-recuperation-letat-de-10-16-hectares-de-terres-respectivement-delegations-de-boussalem-dahmani/ [17]  AITEC, Les politiques et les pratiques de la libéralisation des échanges et des investissements en Tunisie, 2016, p2:  http://aitec.reseau-ipam.org/IMG/pdf/article_tunisie_libre_echange-2.pdf [18]  IPCC, 2014: Climate Change 2014: Synthesis Report. Contribution of Working Groups I, II and III to the Fifth Assessment Report of the Intergovernmental Panel on Climate Change [Core Writing Team, R.K. Pachauri and L.A. Meyer (eds.)]. IPCC, Geneva, Switzerland, 151 pp. [19]  دراسة ميدانية حول هياكل الإستغلال الزراعي،2004-2005-جانفي 2006 وزارة الفلاحة والموارد المائية، الإدارة العامة للبحوث والتنمية الفلاحية.

المراجع الببليوغرافية
المساهم

أيمن عميّد

مهندس زراعي.كنت باحثا بمرصد السيادة الغذائية والبيئة.و باحث مستقل حاليا. بحوثي تتمحور أساسا حول مواضيع السيادة الغذائية والسياسات الفلاحية مع تركيز على ملكيّة الأراضي وعدم التملك كوسيلة لفرض الهيمنة وتهميش الشعوب.

العودة إلي أعلى