بحث

جار التحميل...
مشاركة
تمت صياغة هذه الورقة من طرف جمعيّة تقاطع

ملخص تنفيذي:

لازالت تونس تعيش منذ حدث 25 جويلية 2021 تغيرات محورية على المستوى السياسي بالأساس ما لبثت أن مست من اختصاصات السلط الثلاث وخاصةً القضائية. من هذا المنطلق، يصبح القضاء مجرد أداة أو وظيفة على حد تعبير دستور 2022 وليس سلطة قائمة الذات. علاوةً على ذلك، استغلت منظومات الحكم المتعاقبة على تونس من الرئيس بورقيبة إلى زين العابدين بن علي، الإضطرابات السياسية لملاحقة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.  ولا يختلف الأمر كثيراً مع السلطة السياسية الحالية بقيادة الرئيس قيس سعيد باستغلالها حالة الاستثناء الدستورية  للزج بالمدنيين في محاكمات عسكرية لا تستجيب لمعايير المحاكمة العادلة من استقلالية وحياد، كما لا تأخذ بعين الاعتبار الصفة المدنية للمتقاضي إزاء جرائم وشؤون عسكرية. 

في هذا السياق، تندرج الورقة السياسية لعرض واقع المحاكمة العسكرية في تونس ورصد انتهاكات حقوق الإنسان في هذه المحاكمات وتقييم القوانين الوطنية في هذه المادة وما إذا كانت تتفق مع الحد الأدنى من الضمانات الدولية للعدالة، لتنتهي بجملـة مـن المقترحات والبدائل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان المسلطة على المتقاضين المدنيين وكذلك عدد من التوصيـات للســلطات السياسيــة التونسيــة وأيضــا لمنظمــات ونشطاء ونشيطات المجتمــع المدنــي والسياسي التونســي كقوة اقتراح لحلحلة هــذا النــوع مــن الانتهاكات.

مقدمة:

تقوم دعائم العدل على احترام حقوق كل إنسان، عندما يمثل المرء أمام القاضي متهما بارتكاب فعل جنائي، فهو يواجه آلية الدولة بعدتها وعتادها الكاملين. ومن ثم، فالطريقة التي يعامل بها المتهم تدل بدقة على مدى احترام تلك الدولة لحقوق الفرد، ولحكم القانون. فكل محاكمة جنائية تشهد بمدى التزام الدولة باحترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويغدو الإختبار عسيرا في حال المتهمين الذين يمتثلون أمام محكمةٍ لا تستجيب إلى المعايير الدولية للمحاكمة العادلة كما هو الحال في تونس بالنسبة للمحاكمات العسكرية للمدنيين التي لا تستوفي متطلبات الاستقلالية والحياد والاختصاص. يذكر أن القانون التونسي يسمح بمقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية المختصة أساساً في الجرائم والعقوبات العسكرية، كما أن تعيين وكلاء الجمهورية بهذه المحاكم يكون بناءً على إقتراح من وزير الدفاع الوطني بإقرار من مجلس القضاء العسكري[1]. وهو الذي يعد ضرباً صارخاً لحق الإنسان في محاكمة عادلة أمام قاضي مختص ومحايد ونزيه. 

تشهد تونس منذ 25 جويلية 2021 تحولات سياسية كبيرة و استحقاقات انتخابية في زمنٍ قصير جداً تزامنت معها التضييقات على الحقوق والحريات و إرتفاع الملاحقات القضائية للمدنيين أمام المحاكم العسكرية حيث امتثل أمام هذه المحاكم في سنةٍ واحدة 10 مدنيين من مدونين وسياسيين ومحامين وصحفيين وبرلمانيين سابقين[2] في سابقةً خطيرة وجب التصدي إليها ومعالجتها في أقرب وقت ممكن.

المحاكمات العسكرية للمدنيين في تونس: جدل سياسي وقانوني مستمر

لعبت المحاكم العسكرية في تونس دوراً جوهرياً تحت رئاسة الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي في إدانة الأشخاص على خلفية نشاطهم السياسي أو نقدهم للسلطة[3]. وبالرغم من الإصلاحات النسبية التي طرأت على القانون المنظم للقضاء العسكري بعد ثورة 2011,[4]،[5] وتكريس بعض الضمانات على المستوى الإجرائي على غرار مبدأ التقاضي على درجتين و ترأس قاضي مدني في تركيبة المجلس، فإن هذه المحاكم بقيت بعيدة على متطلبات المحاكمة العادلة من حياد القضاة و استقلاليتهم/ن[6].

تمثل المحاكمات العسكرية للمدنيين محل جدل مستمر على المستويين السياسي والقانوني[7]، أما سياسياً فإن أغلب الإنتقادات سلطت الضوء أساساً على تزامن الملاحقات العسكرية للمدنيين مع الوضع السياسي للبلاد فبينما يناقش التونسيون والتونسيات مستقبلهم الغامض، تلاحق المحاكم العسكرية معارضي و منتقدي الرئيس، إذ لم تعد هذه المحاكمات حكراً على السياسيين المعارضين للسلطة السياسية بل تجاوز الأمر ذلك ليشمل صحفيين  ومحامين ونواب شعب ومدونين [8]وهو تصرفٌ لا يقصي فرضية التشفي من الخصوم السياسيين وإسكات الأصوات المعارضة بل يعززها.

بالنسبة للمستوى القانوني، تجدر الملاحظة أولاً إن القانون التونسي يمنح المحاكم العسكرية صلاحية مقاضاة المدنيين في بعض الحالات و من بينها الفقرة ز من الفصل 8 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية الذي يقر محاكمة المدنيين بصفتهم فاعلين أصليين في الجرائم المنصوص عليها بالفصل 5 من نفس المجلة أو بصفتهم مشاركين فيها و الفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية[9] الذي يجرم المس من معنويات الجيش أو إضعاف روح النظام العسكري في الجيش والطاعة للرؤساء و الفصل 22 من القانون عدد 70 لسنة 1982[10] المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي الذي يجرم بعض الأفعال المرتكبة ضد الأمن في ظروف محددة، إلا أن هذه المحاكمات العسكرية للمدنيين أخذت منعرجاً خطيراً في تاريخ تونس منذ تولي الرئيس قيس سعيد سلطات واسعة النطاق ارتفعت معها وتيرة التضييقات على الحريات الفردية أساساً و اكتظت بها أروقة المحاكم العسكرية، ففي غضون سنة من حالة الإستثناء الدستورية حقق القضاء العسكري و أصدر أحكاماً جزائية ضد ما لا يقل من عشرة مدنيين، في تصعيد غير مسبوق منذ ثورة الحرية والكرامة، فإن دل النسق المتزايد لهذا النوع من المحاكمات على شيء فهو يدل على المسار الخطير الذي اتخذه القضاء العسكري التونسي بعد 25 جويلية 2021, من إنتهاك لحق المواطن في محاكمة عادلة وأمام محكمةٍ مستقلة ومختصة يكون فيها حياد القاضي أكبر ضمانةٍ للمتقاضين وتكون فيها صفة المدني شرطاً من شروط الاختصاص الحكمي كما هو معمولٌ به بالفصل 19 من مجلة المرافعات المدنية التجارية[11] لدى المحاكم العدلية. 

  كما أنه من الضروري عرض الخصوصية المتعلقة بدستور 2014 ودستور جويلية 2022 الجديد.

المحاكمات العسكرية في ظل دستور 2014: المنشود الذي لم يتحقق

في دستور 2014 يتميز الوضع الدستوري للمحاكمات العسكرية للمدنيين بثنائية الإنتقالي والدائم[12]، إذ ينص الفصل 149 من الدستور على أنه “تواصل المحكمة العسكرية ممارسة الصلاحيات الموكولة لها بالقوانين سارية المفعول الى حين تنقيحها بما يتماشى مع أحكام الفصل 110” وهو ما نعني به الانتقالي. أما الجانب الدائم فيتمثل في أن المحاكم العسكرية هي محاكم متخصصة وهو ما ينص عليه الفصل 110: “تُحدث أصناف المحاكم بقانون، ويمنع إحداث محاكم استثنائية، أو سن إجراءات استثنائية من شأنها المساس بمبادئ المحكمة العادلة. المحاكم العسكرية محاكم متخصصة في الجرائم العسكرية. ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها.” ويستنتج من هذين الفصلين أن مشرع دستور 2014 يعترف بأن المحاكم العسكرية في وضعها الحالي تنقصها ضمانات المحاكمة العادلة، إلا أنه لا يعني أنها ستتوقف عن أداء اختصاصها، أي أن للمحاكم العسكرية أن تنظر في النزاع الذي يكون فيه مدني طرفا، رغم التحفظات الكبيرة التي تتعلق أساسا بشروط المحاكمة العادلة في هذه القضايا، خصوصا وأن القضاء العسكري ومجلة المرافعات والعقوبات العسكرية لم تُعد مراجعاتها على ضوء الفصل 110 من الدستور. وتجدر الإشارة أن مهمة مراجعة القانون المنظم للقضاء العسكري بما يتماشى وروح دستور 2014 أوكلها المشرع الدستوري لمجلس النواب المنتخب بعد دخول الدستور حيز التنفيذ أي مجلس النواب للفترة النيابية 2014-2019 و2019-2024 ليترك موضوع القضاء العسكري بدون تنقيح إلى يومنا هذا.

القضاء العسكري في ظل دستور 2022: فراغٌ وتغافلٌ دستوري  

أما بالنسبة لدستور 2022, فإن المشرع الدستوري صمت إزاء هذا النوع من المحاكمات وترك فراغاً تشريعياً ليبقى حال المحاكم العسكرية كما هو معمول به أي بمقتضى مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية مما يؤكد عدم رغبة مشرع دستور 2022 التطرق لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري وإكسائه قيمةً دستورية. إكتفى الدستور الجديد بالتنصيص على حياد القاضي في الفصل 122 منه وهي نقطة هامة لطالما كانت موضوع انتقادات من منظمات المجتمع المدني في علاقة بالمحاكمات العسكرية للمدنيين إذ هناك استنكار كبير لعدم استيفاء القضاء العسكري لمتطلبات ومعايير الاستقلالية والحياد حيث لرئيس الجمهورية الكلمة الفصل في تعيين قضاة وممثلي النيابة العمومية في نظام المحاكم العسكرية ويتم ذلك بناءً على ترشيحات وزيري الدفاع والعدل، كما يكون وكيل الجمهورية وكذلك جميع وكلاء النيابة بالمحاكم العسكرية (الذين يلعبون دوراً محورياً في إثارة الدعاوى الجزائية وممارستها) حسب القانون أفراداً عاملين في الجيش يخضعون لإجراءات النظام العسكري، مما يجعلهم تحت إمرة السلطة التنفيذية في شخص رئيس الجمهورية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة بموجب الدستور، ونتيجةً لذلك تفتقر المحاكم العسكرية إلى الإستقلالية ومع الفصل 122 من الدستور الجديد [13]ومع المادة 14 من العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية التي صادقت عليها تونس والذي يضمن حق كل فرد في:” أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة ومستقلة وحيادية، منشأة بحكم القانون.”

كما تجدر الإشارة إلى أن الدستور الجديد لم يتعرض في الباب الرابع المخصص للوظيفة القضائية إلى مجلس أعلى للقضاء العسكري على غرار الأقضية العدلية والمالية والإدارية التي خصص لها مجلس أعلى ينظر في شؤون كل صنف وهذا في حقيقة الأمر يحيلنا إلى المرسوم عدد 70 لسنة [14]2011 الذي يقر وجود هيكلٍ قضائي هو مجلس القضاء العسكري والذي ينظر في في تسمية الملحقين القضائيين العسكريين وترقية القضاة العسكريين و نقلهم وتأديبهم وفي مطالـب الاستقالـة وفي مطالب رفع الحصانة عن القضاة العسكريين وبصورة عامّة في كلّ ما يتّصل بسير الشأن الوظيفي للقضاة العسكريين. ويمثل مجلس القضاء العسكري محل انتقادات أهمها ترؤس وزير الدفاع الوطني لهذا المجلس ووقوفه بصفته وزيراً ممثلاً للسلطة التنفيذية ومحتكماً لأوامر رئيس الجمهورية على أهم المحطات التي يمر بها القضاة العسكريون من ترقية وتأديب ونقل وتصويت الشيء الذي لا يعد مقبولاً لتعارضه مع مبدأ الفصل بين السلط، إضافةً إلى ذلك  فإن الدستور الجديد ينص في فصله المائة وسبعة عشر على أن القضاء وظيفة مستقلة يباشرها قضاة لا سلطان عليهم في قضائهم  لغير القانون فكيف إذاً لمجلس القضاء العسكري الذي ينظر في كل ما يتصل بالقضاء العسكري أن يترأسه شخص قد يكون قاضياً وقد لا يكون لكنه خاصةً شخص ممثل للسلطة تنفيذية أو بالأحرى للوظيفة التنفيذية.

القضاء العسكري وانتهاكات حقوق الإنسان:

يجد المدنيون أنفسهم أمام القضاء العسكري التونسي في أغلب الحالات جراء أقوال أو أفعال أو أراء أو انتقادات تتعلق برأس السلطة التنفيذية وأدائها وبمؤسسات الدولة وكيفية إدارتها لأعمالها[15]. وذلك من خلال تهم من نوع المس من معنويات الجيش وإضعاف روح النظام العسكري في الجيش والطاعة للرؤساء عملاً بالفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية الذي يحظر أي انتقاد لأعمال القيادة العامّة للجيش. من شأن هذه الفصول أن تمنع أي حديث أو نقاش عام، خاصة وأنها تنص على عقوبة سجنية من شأنها ترويع المدنيين، بينما يفترض أن يشكل أداء قوات الجيش موضوعا مشروعا يتعلق بالشأن العام تتناوله مختلف وسائل الإعلام في مجتمع يضمن حرية الرأي والتعبير ويجب أن تكون كلّ الأطراف المساهمة في النقاش العام قادرة على استقاء المعلومات وبثها بكلّ حريّة، بما في ذلك الجانب النقدي للقرارات والأعمال التي يتخذها ويقوم بها رئيس الجمهورية أو السلطات العسكرية.

كما يتبين أن في كل محاكمة عسكريةٍ لمدني إلا وانتهك معها حق جوهري من حقوق الإنسان مثل الحق في حرية التعبير التي كانت مستهدفة في قضايا عديدة كان العمل الصحفي موضوعها، فمع حق الصحافة في البحث عن المعلومات ونشرها للعموم، لا بد من تأمين حق العموم في تلقي المعلومات ولذلك فلا شك في ان الفصل 91 يشكل تقييدا غير متناسب مع حريّة التّعبير وإن استخدام القضاء العسكري لهذه الأحكام ضد الصحفيين والمدونين من شأنه أن يهدد حرية التعبير والخوض في مواضيع الشأن العام.

إضافة إلى ذلك فإن توظيف الفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة ضدّ المدنيين خاصة منهم المعارضين للنظام السياسي الحالي هو تمشّي يخرق الفصل 19 من العهد الدّولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة. وفي قضايا اخرى هناك من وجدوا أنفسهم متهمين أمام محكمتين، محكمة عسكرية وأخرى مدنية في وهو ما يتعارض مع القانون الذي يضمن حق كل إنسان في محاكمةٍ واحدةٍ لنفس الأطراف ونفس السبب ونفس الموضوع وهو ما يعرف لدى المختصين في القانون بمبدأ اتصال القضاء.

الحلول والبدائل المقترحة :

تأكيداً للموقف الحقوقي الرافض لمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية وبناءً على الإحساس بالمسؤولية تأتي هذه البدائل كقوة اقتراح لحلحلة هذا الجدل المستمر منذ دولة الإستقلال وهي ليست بمعزل عن المسار القانوني والسياسي التي مرت به تونس.

ضرورة إرساء قانون جديد ينظم القضاء العسكري وفق متطلبات الإستقلالية والإختصاص 

لعل من أهم المقترحات في هذا الموضوع هو إرساء قانون جديد ينظم شروط وإجراءات التقاضي لدى المحاكم العسكرية بطريقة تتناسق مع روح الدستور والتزامات تونس الدولية وسمو منظومة الحقوق والحريات و تحترم متطلبات الإختصاص بحيث لا يمتثل شخص مدني أمام محكمةٍ تختص في النظر بالجرائم و الشؤون العسكرية و كذلك وفق متطلبات الاستقلالية بما يجعل القضاة مستقلين في سلطة قرارهم و إحتكامهم للقانون فقط  و عدم تعيينهم من السلطة التنفيذية وعدم إعتبراهم جزءًا من الجيش, مع الحفاظ على الضمانات الإجرائية التي جاءت بالمرسوم عدد 69 لسنة 2011 المؤرخ في 29 جويلية [17]2011, على غرار مبدأ التقاضي على درجتين وترأس قاضي مدني للتركيبة المجلسية.

“كما أنه للحفاظ على إستقلالية القضاء وضمان الكفاءة العالية للقضاة ، تقتضي المعايير الدولية أن يتم اختيار الأشخاص الذين يعينون في السلك القضائي العسكري بناء على  تدريبهم القانوني وتكوينهم ونزاهتهم وخبراتهم[18]، ويجب أن تكون الهيئة المسؤولة عن تعيين القضاة العسكريين وترقيتهم وتأديبهم مستقلة عن السلطة التنفيذية سواء في تكوينها أو في طريقة عملها[19]” كما هو معمولٌ به في المحاكم العدلية والإدارية[20] حيث يعود الاختصاص المطلق في التعيين والترقية والتأديب إلى المجلس الأعلى للقضاء وحده ضماناً لاستقلالية القضاء وحياده، لذلك يجب أن تتغير التركيبة الحالية لمجلس القضاء العسكري التي يرأسها وزير الدفاع الوطني.

علاوةً على ذلك ,يجب أن يكون القضاء العسكري قضاءً مختصاً ويقصد بالاختصاص منح القانون للمحكمة العسكرية الولاية القضائية أو سلطة النظر في الدعاوى القضائية العسكرية والجرائم العسكرية فقط بما لا يتجاوز معه النظر في شؤون المدنيين.

“إن المحاكم تستمد إستقلاليتها من مبدأ الفصل بين السلطات المطبق في المجتمعات الديمقراطية. ومعنى هذا أن يكون لكل جهاز من أجهزة الدولة مسؤوليات محددة يختص بها وحده دون غيره. وبحسب رأي اللجنة الأفريقية، فإن: المبرر الرئيسي لوجود مبدأ فصل السلطات هو ضمان ألا يصبح أحد فروع الحكم من القوة بحيث يتغول على الأخرى فيتجاوز حدود سلطته. و يضمن الفصل بين سلطات الحكم الثلاثة – التنفيذية والتشريعية والقضائية – وجود الضوابط وآليات التوازن التي تحول دون تجاوز أي منها على الأخرى. 

لا يجب أن يخضع القضاة، كهيئة أو كأفراد، لأي تدخل سواء كان من جانب الدولة أو من قبل الأشخاص العاديين وعلى الدولة أن تضمن هذا الإستقلال وتكفله بأن تنص عليه في قوانينها وبأن تحترمه جميع المؤسسات الحكومية حتى يكون للقضاة السلطة المطلقة لبث القضايا المحالة عليهم/ن”[21].

مبدأ التأويل الضيق للنص الجزائي وتجنب العبارات الفضفاضة

إضافة إلى كل هذا، فإن مبدأً شرعية الجرائم والعقوبات الدستوري يقتضي من المشرع والقاضي على حد السواء الحرص على تحرير وتطبيق النصوص القانونية التجريمية متجنبين إستعمال العبارات الواسعة والفضفاضة مثل “تحقير الجيش والمس من كرامته أو سمعته أو معنويته أو يقوم بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم أو انتقاد أعمال القيادة العامة أو المسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس كرامتهم” واستعمال الصياغة الحصرية وعدم إعتماد طريقة التجريم بالإحالة والإلتزام بتأويل النص الجزائي تأويلاً ضيقاً تقيداً بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات حتى لا يقع التعسف بحقوق المتهم لأن القاضي العسكري كلما توسع في نطاق تفسير النصوص الجزائية كلما أدى ذلك إلى إمتداد نطاق التجريم والعقاب على الأفعال التي لم يجرمها القانون ولم يقرر من أجلها عقاباً. 

التوصيات: 

السلطة التشريعية:

  • ضرورة إرساء قانون جديد ينظم القضاء العسكري وفق متطلبات الإستقلالية والإختصاص أو  تنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية وبالتحديد الفصول 8 و  91 منها التي تسمح بمقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في حالات معينة و الفصل 22 من القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أوت 1982  المتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي الذي يسمح بإحالة مدنيين ومدنيات على القضاء العسكري في قضايا يكون أعضاء من قوات الأمن الداخلي أطرافا حسب وضعيات حددها نفس القانون.
  • تنقيح الفصول المتعلقة بمجلس القضاء العسكري في المرسوم عدد 70 لسنة 2011 لتكون تركيبته خاليةً من وزير الدفاع ومتكونة من قضاة عسكريين لا غير.

السلطة القضائية العسكرية :

  • التقيد واحترام مبدأ التأويل الضيق للنص الجزائي المتفرع من مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات و الذي يقتضي استعمال الصياغة الحصرية وعدم اعتماد طريقة التجريم بالإحالة حتى لا يقع التعسف بحقوق المتهم.

المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية:

  • تقديم الدعم والحماية القانونيين للمدنيين الذين وقعت محاكمتهم أمام القضاء العسكري
  • العمل على صياغة مشروع قانون منقح لمجلة المرافعات والعقوبات العسكرية يكون ملائما لمنظومة حقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها في أجل أقصاه سنتين  وعرضه على مجلس نواب الشعب المزمع إنتخابه في ديسمبر 2022.
  • تكوين ائتلاف مدني والضغط على سلطة القرار للحد وإلغاء العمل بعرض المدنيين على أنظار القضاء العسكري  في أجل أقصاه ستة أشهر 

[1] الفصل 2 من المرسوم عدد 70 لسنة 2011 المؤرخ في 29 جويلية 2011 يتعلق بتنظيم القضاء العسكري وضبط النظام الأساسي الخاص بالقضاة العسكريين [2] تونس: ارتفاع مقلق في عدد المدنيين الذي يَمْثلون أمام محاكم عسكرية، منظمة العفو الدولية، 10 نوفمبر 2021. https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2021/11/tunisia-alarming-increase-in-number-of-civilians-facing-military-courts/ [3]  تقرير المحاكمات العسكرية للمدنيين: سيف السلطة على رقاب المعارضين، جمعية تقاطع من أجل الحقوق والحريات، تونس، أوت 2022, أخر ولوج: 20 أكتوبر 2022. https://cutt.ly/2NJtydl [4]  مرسوم عـدد 70 لسنة 2011 مؤرّخ في 29 جويلية 2011 يتعلق بتنظيم القضاء العسكري وضبط النظام الأساسي الخاصّ بالقضاة العسكريين https://legislation-securite.tn/ar/law/43402  مرسوم عـدد 69 لسنة 2011 مؤرّخ في 29 جويلية 2011 يتعلق بتنقيح وإتمام مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة  [5] https://legislation-securite.tn/ar/law/43401#:~:text=الفصل%20الأول%20(جديد)%20-%20تنظر,3-%20دوائر%20اتهام%20عسكريـة [6] تونس: معلومات إضافية: أَسقِطُوا التهم الموجهة إلى محامٍ يُحاكَم عسكريًا: عبد الرزاق الكيلاني، منظمة العفو الدولية، 11 ماي 2022, تونس، أخر ولوج: 16 جويلية 2022.  https://www.amnesty.org/ar/documents/mde30/5584/2022/ar/  [7] نفس المصدر 3[8] نفس المصدر 3[9] مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية https://cyrilla.org/ar/entity/nsvjad5thnqq9g44qalq2rzfr?page=    [10] القانون عدد 70 المؤرخ في 6 أوت 1982 https://legislation-securite.tn/sites/default/files/lois/Loi%20n°%2082-70%20du%206%20Août%201982%20%28Fr%29.pdf ‘[11]مجلة المرافعات المدنية التجارية https://wrcati.cawtar.org/preview.php?type=law&ID=109  [12] هل يمكن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية؟، تدخل الأستاذ في القانون الدستوري عبد الرزاق المختار، jawaherfm، أخر ولوج:2 أوت 2022.  https://cutt.ly/vNJy2P7 [13] الفصل المائة والثاني والعشرون: يشترط في القاضي الكفاءة، وعليه الالتزام بالحياد والنزاهة وكلّ إخلال منه موجب للمساءلة.”، أمر رئاسي عدد 578 لسنة 2022 مؤرّخ في 30 جوان 2022 يتعلّق بنشر مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية موضوع الاستفتاء المقرر ليوم الاثنين 25 جويلية 2022. [14]  الفصول 14 و15 و17 من المرسوم عدد 70 لسنة 2011 المؤرخ في 29 جويلية 2011 يتعلق بتنظيم القضاء العسكري وضبط النظام الأساسي الخاص بالقضاة العسكريين، [15] نفس المصدر 3 [16] أحكام عسكرية في قضية المطار في تونس: مقاضاة المدنيين وشبهة اعتداء على حقوق الدفاع، المفكرة القانونية، 18 ماي 2022, أخر ولوج: 1 سبتمبر 2022. https://cutt.ly/8NJoI0S [17] رسوم عـدد 69 لسنة 2011 مؤرّخ في 29 جويلية 2011 يتعلق بتنقيح وإتمام مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة [18]  المبدأ 10 من المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية، والقسم أ(4)(ط)-(ك) من مبادئ المحاكمة العادلة في أفريقيا، والمادة 12 من النظام الأساسي لمحكمة رواندا، والمادة 13 من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا. [19]  منظمة العفو الدولية، دليل المحاكمة العادلة: الحق في محاكمة عادلة أمام محكمة مختصة مستقلة ونزيهة مشكلة وفق أحكام القانون، الصفحة 113. [20]  الفصل المائة وتسعة عشر من دستور 2022 ينص على أنه  “– ينقسم القضاء إلى قضاء عدلي وقضاء إداري وقضاء مالي ويشرف على كلّ صنف من هذه الأقضية مجلس أعلى يتولى القانون ضبط تركيبته واختصاصاته.” [21] نفس المصدر 20, ص111

المراجع الببليوغرافية
المساهم

جمعية تقاطع

جمعية تقاطع من أجل الحقوق والحريات (IARF) هي منظمة غير حكومية مستقلة لحقوق الإنسان والبحوث مقرها تونس وتأسست في عام 2020. تسعى الجمعية إلى المساهمة في تعزيز مفهوم وممارسة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان العربية. من خلال البحث، والعمل الميداني، والتوثيق، وإعداد التقارير، تهدف جمعية تقاطع إلى تطوير السياسة العامة والتشريعات والممارسات التي تتماشى مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحكم الديمقراطي.

العودة إلي أعلى