الملخص التنفيذي
تعددت النظريات المهتمة بتشخيص الإشكاليات التي يشهدها قطاع القضاء في تونس، وأضحى هذا الموضوع مثار اهتمام عديد الأوساط،خصوصا منها الأكاديمية. وأمــام مــا نعيشــه خلال الفتــرة الأخيــرة مــن إشكاليات فعلية، وانطلاقا مـن التساؤلات المسـتمرة لعموم المواطنين حــيال موضوع العدالة بصفة عامة وغياب المعلومــة الصحيحــة والنافعــة. فإنــه بــات مــن الضـروري الإطلاع والفهم الدقيق لواقـع القضاء فـي تونس.
إذ يمر سبيل التقدم للمنظومة القضائية في تونس ضرورة بالتشخيص الفعلي والدقيق للإشكاليات ومحاولة إيجاد حلول تتناسب مع تطلعات منظوري العدالة بصفة عامة ومسيري المرفق القضائي بصفة خاصة. وإزاء هذا الواقع تفرض علينا ضرورة البحث بسط عدة محاور لموضوع هذه الدراسة إنطلاقا من الإشكاليات الهيكلية للمنظومة القضائية (المحور الأول) و ضبابية اختصاص المحاكم (المحور الثاني)، إضافة إلى حدود محاولات الإصلاح (المحور الثالث) ووصولا الى الحلول البديلة لإشكاليات المنظومة القضائية (المحور الرابع).
المقدمة
إن العدالة هي قوام الدولة وإعتدالها، وكما قال العلامة عبد الرحمان ابن خلدون فإن”العدل أساس العمران”،حيث لا تتوفر طمأنينة لشعب دون قضاء يحميه ويصوب أخطاءه، ولا مكان لدولة أو مؤسسة أن تستمر دون ترسانة قانونية تحميها وتضمنها،إذ ترتكز أساسا على مؤسسة قضائية ناجعة وقوية وقادرة. لذلك تضعنا دراسة المنظومة القضائية في تونس اليوم أمام ضرورة البحث و التمحيص حول الإشكاليات والصعوبات الي تمر بها نظرا لحساسية هذا القطاع وتدخله في حياة الإنسان عموما أو المؤسسات التي تنبني عليها الدولة. لذلك فإن دراسة الجهاز القضائي تستوجب منا الوقوف على الإشكاليات الهيكلية وتبيينها ثم تحليل محاولات الإصلاح ومدى فاعليتها داخل المنظومة القضائية، مرورا بتدخل الجهاز القضائي و تأثيره على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها الضمانة الأولى لتكريس مناخ اقتصادي ملائم ومحفز على الإستثمار، كما أن الحديث عن المنظومة القضائية لا يكتمل دون المرور ببعض الحلول التي نراها ذات أهمية قصوى لتدارك الوضع الراهن.
دائماً ما توجد علاقة جدلية بين القانون وحقوق المواطن وحريته حيث أن أكثر الأمور حساسية في الدولة المعاصرة تتمحور حول الإجراءات التي يمكن إتباعها للمحافظة على هذه الحقوق والحريات، ذلك أنه من المحتمل أن يستخدم القانون ووسائل تطبيقه كأدوات لتجاوز السلطة كما يمكن استخدامها للحفاظ على الحقوق وصون الحريات. وقد كانت المجتمعات الحديثة واعية بأهمية السعي لإرساء مبادئ العدالة وحكم القانون التي تبتعد عن الطغيان والاستئثار بالقرار فابتدأ التركيز منذ عصر التنوير على إرساء مبادئ العدالة بالنأي عن مركزية السلطة في المجتمع بحيث تتوزع الأدوار وتتكامل فكان ظهور مبدأ فصل السلطات الذي تمت بلورته ابتداء من القرن السابع عشر وحتى يومنا ،وهو ما خول السلطة القضائية للتبلور كإحدى السلطات الأساسية في صون حرية الأفراد وحقوقهم وتالياً في إرساء حكم القانون.
أما في البلاد التونسية، فكان القضاء فرديا وهو الصنف الوحيد المتعارف عليه في تاريخ القضاء الإسلامي. وغداة الاستقلال تم توحيد جميع المحاكم التونسية ونقل القضايا الى المحكمة الإبتدائية، وأدمج الحكام الموجودين في إطار الحق العام[1]. ورغم قدم المؤسسة القضائية بتونس إلا أنها لاتزال تعاني عديد الصعوبات التي حالت دون مواكبتها للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، منها ما يعود أسبابه الى الإشكاليات الهيكلية للمنظومة القضائية ومنها ما يعود إلى فشل محاولات إصلاحها خاصة في ظل تراجع الدور الفعال والناجع للقاضي نحو خلق إطار إجتماعي متكافئ وعادل وكذلك غياب الحلول الجذرية لجعل المنظومة القضائية تؤدي هدفها الأسمى وهو العدالة[2].
وتماشيا مع هذا الطرح سوف نتطرق إلى الإشكاليات الهيكلية للمنظومة القضائية(1) ثم حدود محاولات اصلاحها(2) وكذلك ضبابية الاختصاص للمحاكم وأخيرا الحلول البديلة للإشكاليات القضائية.
الإشكاليات الهيكلية للمنظومة القضائية:
تعيش المنظومة القضائية منذ فترة طويلة صعوبات كبرى ازدادت تفاقما بعد قيام الثورة، وأصبح الوضع داخل مختلف المحاكم يتسم بالتعقيد. إذ أدى تراكم جملة من العوامل إلى هذا الوضع،ومن بينها محدودية الموارد البشرية مقابل تضخم عدد القضايا، ومحدودية الإمكانيات المادية للمنظومة القضائية ممّا أدّى بصورة إجمالية إلى تأخير البت في القضايا مع ما يشمل ذلك من تبعات إقتصادية سلبية كذلك.
محدودية الموارد البشرية مقابل تضخم عدد القضايا
يقتضي تسيير المنظومة القضائية تدخل عديد الأسلاك على غرار سلك القضاة والكتبة إضافة إلى سلك مساعدي العدالة المتكون عدول التنفيذ والإشهاد والمحامين. حيث بلغ عدد القضاة العدليين في نهاية 2016 2168 قاضيا، منهم 836 في الرتبة الأولى، و634 في الرتبة الثانية و698 في الرتبة الثالثة وهي أعلى الرتب. أما بالنسبة لسلك المحامين فقد ارتفع من 1400 سنة 1991 إلى حوالي 8000 سنة 2011. ورغم العدد الكثيف لمسيري لجهاز القضاء إلا أنه لا يزال يشكو من عديد الصعوبات، فعدد القضاة لا يتناسب مع حجم القضايا المطروحة حيث يبلغ عددها 450 قضية لكل قاض شهريا. ويبلغ عدد قضايا الحق العام حوالي 2.492.217 قضية بين سنتي 2017 و2018 على غرار القضايا بالمحكمة العقارية التي وصلت إلى حدود 41538 قضية. جملة هذه الأرقام تعكس وضعية المنظومة القضائية التي لاطالما اتسمت بالهشاشة بالنظر إلى نقص عدد القضاة داخل المحاكم وكثرة الإجراءات المتبعة في فصل النزاعات من جهة،و طلبات تأخير القضايا و تمسك الخصوم بطلباتهم دون أدلة من جهة أخرى دون أن ننسى الإرث السلبي للنظام السابق، عندما كان القاضي بين مطرقة القانون وسندان القرارات السياسية المتمثلة في النقل التعسفية وتجميد من ليس لهم ولاء للنظام. ورغم تراجع هذه الممارسات في الآونة الأخيرة إلا أن أصداءها لا زالت تصلنا اليوم.
محدودية الإمكانيات المادية للمنظومة القضائية
على غرار الإشكاليات البشرية للمنظومة القضائية، تأخذ الإشكاليات المادية وخصوصا منهاعدد المحاكم حيزا هاما من العراقيل التي تواجهها هذه المنظومة. فبالنسبة للجهاز القضائي العدلي يبلغ عدد المحاكم 28 محكمة ابتدائية تختلف عدد القضايا المرفوعة فيها سنويا. فخلال السنة القضائية 2016/2015، قضت المحكمة الابتدائية بتونس (باب بنات) في 2560 قضية جنائية، تليها محكمة سوسة بـ600 قضية جنائية. وفي القضايا المدنية، قضت محكمة تونس لوحدها في نحو 43 ألف قضية، مقابل 13 ألف قضية في صفاقس، وينخفض العدد لألف قضية فقط في تطاوين. أما محاكم النواحي فيبلغ عددها 85 محكمة موزعة داخل التراب التونسي. إضافة إلى 16 محكمة استئناف، حيث تستأثر محكمة الاستئناف بتونس بالعدد الأكبر من القضايا الاستئنافية، فمثلًا في القضايا المدنية قضت محكمة تونس لوحدها في نحو 15 ألف قضية، مقابل 5616 قضية لمحكمة صفاقس و 486 قضية فقط لمحكمة سيدي بوزيد[3]. أما بالنسبة لجهاز القضاء الإداري فتوجد محكمة واحدة بتونس لها فروع في باقي ولايات الجمهورية.و جعلت تركيبة هذا الجهاز التحديات التي تطاله أكثر حدة من نظيره العدلي،فهو يخضع إلى الإزدواجية في التقاضي في بعض القضايا على غرار دعاوي المسؤولية الإدارية حيث يخضع الطور الإبتدائي إلى القاضي العدلي و الطور الاستئنافي الى القاضي الإداري رغم وجود مجلس تنازع اختصاص منذ سنة 1996. إن وجود جهازين قضائيين في نفس الوقت من شأنه التسبب في بعض التعقيدات الجوهرية، أهمها إمكانية وجود صعوبات في تحديد الجهاز القضائي المختص، حيث يمكن للطرفين المتخاصمين – بحسن نية أو عن سوء نية- الإحتكام لدى قاض غير مختص. كما أن المحاكم نفسها يمكنها أن تسيئ تقدير اختصاصها وأن تقر خطأ أنها مختصة. لذا يمكن معاينة أن صعوبة تحديد القاضي المختص، لها علاقة مباشرة بالحق في التقاضي ويمكنها في غياب الآليات المناسبة، المساس به بشكل جدي[4]. أمام هذه الإشكاليات نادت جل الأصوات بضرورة إصلاح المنظومة القضائية بما يجعلها ملائمة أكثر للتحديات الحالية والمستقبلية للبلاد. لكن كيف يتأتى لأي مشروع إصلاحي للقضاء أن يحيط بهذه العراقيل ويجسم السبيل لإصلاحها؟
تأخير البت في القضايا وتداعياته الإقتصادية
إضافة إلى ذلك فإن عمل القضاة يؤثر على الدورة الإقتصادية بشكل مباشر، فطول الإجراءات وإصدار الحكم المناسب يتطلب من القاضي وقتا طويلا لدراسة الملفات، حيث جاء على لسان رئيس نقابة القضاة ب:”أن ظروف العمل الحالية للمنظومة القضائية قد تؤثر سلبا على التنمية الاقتصادية فإذا كانت المحكمة التجارية تأخذ من أربع الى ست سنوات للبت في قضية ما فأي مستثمر سيغامر باستثمار أمواله هنا؟ موضّحا أن طبيعة الفصل في النزاع التجاري محكوم عليه بالبطءلأن الحكم باندثار شركة تجارية أو أصل تجاري ليس بالأمر الهيّن لذلك على القاضي التروّي في تجهيز ملف القضية كي يستطيع الفصل فيه لأن في ذلك تأثيرا مباشرا على وضع شركة تقوم بتشغيل العديد من المواطنين، وهو ما قد يساهم بدوره في عدم استقرار المعاملات الاقتصادية[5] .
ضبابية اختصاص المحاكم:
إن سير المنظومة القضائية يستوجب قواعد تنظيمية تساعد في فصل النزاعات،حيث تهم هذه القواعد تنظيم المحاكم على المستوى الترابي أو الحكمي (الوظيفي). وقد ساهم اعتماد الإزدواجية بين القضاء الإداري والعدلي في ضبابية على مستوى الاختصاص.
المشاكل المتعلقة بالاختصاص الترابي:
رغم ما أقرته المجلات القانونية وكذلك القوانين الخاصة من تنظيم الإختصاص الترابي للمحاكم إلا انه لازال يشهد تذبذبا نتيجة تعدد الإجراءات المتبعة مما ساهم في اكتظاظ بعض المحاكم على حساب البعض الأخر. فالاختصاص الترابي هو سلطة المحاكم في الفصل في الدعاوى والنزاعات وذلك حسب مكان المقر ، وقد نظم المشرع القواعد الخاصة بالاختصاص الترابي صلب أحكام الباب الثالث من مجلة المرافعات المدنية والتجارية (م م م ت مجلة المرافعات المدنية والتجارية ) من خلال الفصول 30 إلى 33 . وتبرز أهمية تحديد المقر المطلوب لأنه يحدد الاختصاص الترابي للمحاكم، أي أن المحكمة المختصة ترابيا هي المحكمة التي يقع بدائرتها مقر المطلوب سواء كان الأصلي أو المختار أو مقر الشركة أو الجمعية أو مقر فروعهما اذا كان النزاع متعلقا بهما.
ويتمثل الإشكال الأبرز في الاختصاص الترابي في أن المشرع منح المدعي إمكانية الخيار حسب ما جاء بالفصل 36 م م م ت مجلة المرافعات المدنية والتجارية ، ويفيد الخيار أن للمدعي خيار اعتماد القاعدة العامة الواردة بالفصل 30 م م م ت مجلة المرافعات المدنية والتجارية أي مقر المطلوب أو احدى الخيارات الواردة بالفصل 36 م م م ت مجلة المرافعات المدنية والتجارية . (والتي تتعلق بالدعاوى في المادة العقدية والدعاوى المتعلقة باستحقاق منقول والدعاوى المتعلقة بتعويض الضرر الناتج عن جنحة أو شبه جنحة والدعاوى المتعلقة بالكمبيالة والسند لأمر و دعاوى النفقة). أما بالنسبة لمكان وجود العقار فقد خصه المشرع بالفصل 38 م م م ت مجلة المرافعات المدنية والتجارية التي تحدد المحكمة المختصة ترابيا بتلك التي يوجد بدائرتها العقار .
ومن ناحية أخرى سعى المشرع إلى تقريب المحكمة المختصة ترابيا من النزاع بالنظر إلى خصوصية أطراف الدعوى التي قد تكون فيها الدولة طرفا فاعتبر الفصل 32 م م م ت مجلة المرافعات المدنية والتجارية “أن المحاكم المنتصبة بتونس تنظر في الدعاوى التي تكون الدولة فيها طرفا”. مما ساهم في اكتظاظ المحاكم المتواجدة بتونس مقارنة بالمحاكم الداخلية وهو ما عرقل سير البعض منها نتيجة تزايد عدد القضايا المرفوعة ضد الدولة خاصة بعد ثورة 14 جانفي 2011.
المشاكل المتعلقة بالاختصاص الحكمي
على غرار الاختصاص الترابي وما يجده من إشكاليات عرقلت سير القضاء فإن الاختصاص الحكمي لم يكن بمنأى عن هذه الصعوبات وتحديدا في اختصاص المحكمة الإبتدائية حيث استنادا إلى الفصل 40 من م م م ت تنظر المحكمة الابتدائية في جميع الدعاوى عدا ما خرج منها بنص خاص و بموجب هذا النص تتمتع المحكمة الابتدائية باختصاص شامل وهو ما يحيلنا للتساؤل عن طبيعة الدعوى. فالجدوى من ذلك هي التمكن من استعمال معيار طبيعة الدعوى لتحديد اختصاص المحكمة الابتدائية، ومن جهة أخرى خص المشرع المحكمة الابتدائية ببعض الدعاوى بنص صريح مثل دعاوى الجنسية. إلا أن الأمر يزداد تعقيدا عندما تم تقسيم المحكمة الابتدائية إلى دوائر وخص البعض منها باختصاص حكمي ومنها الدوائر التجارية وقاضي الملك التجاري ودائرة الشغل،وعليه لابد من اعتماد هذا التقسيم والاختصاص المطلق للمحكمة الإبتدائية وهو ما نسميه الاختصاص النوعي للمحكمة الابتدائية ثم النظر في الاختصاص القيمي. فالاختصاص الحكمي للمحاكم رغم أهميته في عملية سير الجهاز القضائي إلا أنه يبقى مثارا لعديد الإنتقادات خاصة في ما يهم الدعاوى غير المقدرة والتي أوكل فيها المشرع للخصوم تحديد المحكمة وفقا للطلبات المقدمة. لكن في أغلب الاحيان يسيئ الخصوم تحديد مقدار الدعوى فتدفع المحكمة بعدم الاختصاص. علاوة على ذلك فإن الاختصاص المطلق للمحكمة الابتدائية باعتبارها محكمة حق عام بامتياز قد ساهم بدوره في خلق حالة من عدم التوازي بين عدد القضايا و القضاة على حد السواء اذ نجد محاكم النواحي أقل اكتظاظا وأكثر سرعة في فض النزاعات من المحاكم الابتدائية. لذلك يجب التفكير في جملة من المعايير المحددة للاختصاص الحكمي لما يشهده من تعقيدات ساهمت في تدني مردودية الجهاز القضائي.
ازدواجية الجهاز القضائي
يمكن الجزم اليوم بأن الازدواجية القضائية أصبحت تشكل جزءا من التراث القانوني التونسي . فقد كرس كل من دستور غرة جوان 1959 و دستور 27 جانفي 2014 صراحة الازدواجية القضائية. حيث جاء في تقرير اللجنة التأسيسية للقضاء العدلي والإداري والمالي والدستوري حول مشروع باب السلطة الفضائية أن جميع الأطراف المتدخلة في النقاش كانت متفقة على الحفاظ على نظام الازدواجية القضائية. ويمكن تعريف الإزدواجية القضائية بأنها تعني وجود جهاز قضائي إداري إلى جانب جهاز قضائي عدلي وبصفة عامة يقع إحداث محكمة للبت في نزاعات الاختصاص التي يمكن أن تنشأ بين الجهازين القضائيين، وقد أوكلت هذه المهمة الى مجلس تنازع الاختصاص المحدث سنة 1996. تتمثل أبرز الصعوبات الأساسية للإزدواجية القضائية في تحديد الجهاز القضائي المختص. فكل من المتقاضين والمحاكم يمكن لهم أن يخطؤوا في تحديد جهة الإختصاص . لهذا من شأن الإزدواجية القضائية أن تجعل وضع الحق في التقاضي على أرض الواقع معقدا، باعتبار أنه من المحتمل دائما أن يعلن الجهاز القضائي المتعهد أنه غير مختص. مما تنجر عنه تكاليف كبيرة على مستوى المصاريف والوقت المهدور.
كذلك يجب إعادة النظر في اختصاص مجلس التنازع بتدخل المشرع لتحديد مختلف حالات التنازع أو صعوبة الإختصاص بالإضافة الى الإجراءات المتعلقة به. كما يجدر التفكير في توسيع مجال تعهد مجلس الاختصاص ليشمل جميع المحاكم مهما كانت درجتها في الجهاز القضائي الذي تنتمي إليه ما لم يتعارض ذلك مع مصلحة حسن سير القضاء، كذلك من المفيد السماح لأطراف النزاع بالقيام لدى المجلس كلما لم يقع القيام بذلك من طرف المحكمة. غير أن هذا التمشي يتطلب أن يرافقه إصلاح لهيكلة مجلس التنازع والوسائل الموضوعة على ذمته والمبادئ التي تحكم الإجراءات المتبعة لديه.
حدود محاولات الإصلاح:
توالت النظريات حول إصلاح المنظومة القضائية وانقسمت الآراء حول تشخيص واقع القضاء وأسباب تدهوره، فالبعض يرجع ذلك إلى عدم استقلالية الجهاز القضائي، والبعض الآخر من ينادي بإصلاحات هيكلية دون التجريح في القضاة.
وفي محاولة إصلاح أولى إبان النقاشات صلب المجلس الوطني التأسيسي والذي كان يعتبر السلطة القضائية من ضمن أولوياته، دعت جمعية القضاة إلى التعجيل بسن القانون الأساسي المتعلق بإحداث الهيئة المؤقتة الممثلة للقضاة والقوانين المتعلقة بالمجالس العليا المؤقتة للقضاء الإداري والمالي.
كما طالبت هذه الهيئة التي تعتبر أكبر تجمع يمثل القضاة في تونس، المجلس الوطني التأسيسي بإقرار إطار ملائم للتشاور مع القضاة في صياغة الوضع الدستوري والتشريعي للسلطة القضائية وتحديد آلياته طبقا لمقتضيات القانون التأسيسي المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلطات العامة. حينها أعلن القضاة في لائحة عامة نشرت اثر اجتماع الهيئة الإدارية، تمسكهم باشراكهم في اللجان التأسيسية للمجلس الوطني التأسيسي لتقديم مقترحاتهم وتصوراتهم بشأن صياغة القوانين المنظمة للسلطة القضائية. لكن رغم توصلهم إلى هذا المطلب إلا أنه يبقى غير مقنع مقارنة بضخامة مطلب استقلال القضاء الذي يقع التهجم عليه من حين لآخر.
إلا أن الأونة الأخيرة شهدت قرار الحكومة الساعي إلى وضع المرفق القضائي تحت إشراف وزارة العدل وهو الأمر الذي أثار حفيظة الجمعية التونسية للقضاة ونقابة القضاة. وأكدت أن هذا القرار يعتبر خرقاً للدستور ومبادئ استقلال القضاء ودولة القانون، وأن صدور مثل هذه المراسيم لا يهدف إلى تنظيم العمل القضائي. وأن الأمر الحكومي رقم 208 المؤرخ في 02 ماي 2020 هو محاولة للسطو على الصلاحيات، وأن الطرفوالحكومي يريد بذلك السيطرة على القضاء وإعادته إلى مربع السلطة التنفيذية ما يمثل تجاوزا غير مقبول[6]. كما أن محاولات الإصلاح اتخذت عدة أشكال أخرى مثل تنظيم الندوات ودورات التكوين حيث قامت المحكمة الإدارية بمناقشة مشروع المخطّط الاستراتيجي للمحكمة الإداريّة للسّنوات 2020- 2024 ولكن مخرجاته ظلت قيد التشاور دون اتخاذ قرار بخصوصها.
إن استقلالية القضاء لا تحتاج الى ترسانة قانونية دقيقة لضمانها بقدر ما تحتاج إلى الإرادة السياسية لإخراجها من دائرة التجاذبات السياسية. كما أن محاولات الإصلاح التي تشهدها المنظومة القضائية تبقى غير ذي جدوى لاختلاف الرؤى التي يجب أن ينبني الإصلاح الشامل والفعلي. كما أنه رغم محاولات الإصلاح وضمان استقلال القضاء والمساهمة في تشكيل رأي عام داعم لدولة القانون إلا أن تقييم الأحداث يبقى غير موضوعي بما أن القضاء لا يساوي قضاة فقط بل هو منظومة متكاملة ومتجذرة وتتضمن الكثير من المهن القضائية والقانونية التي من شأنها أن تؤثر على القضاء ككل فهذه المنظومة تتفرع لتشمل إضافة الى القضاة المحامين وعدول التّنفيذ وأعوان الإدارة والخبراء والحجبة والكتبة والمستشارين الجبائيين العموميين و المستشارين المقررين بنزاعات الدولة وغيرهم.
الحلول البديلة لإشكاليات المنظومة القضائية
إن انتهاج سبيل إصلاح المنظومة القضائية يمر حتما عبر أراء وقرارات أهل الإختصاص فهم على بينة من الإشكاليات والصعوبات التي أثر تواترها على حسن سير الجهاز القضائي، لذلك فإن خلاصة الحلول المقترحة تعبر عن مواقف القضاة وغيرهم من المتدخلين في المنظومة القضائية. ولئن شكل الدستور الجديد منعطفا حاسما في تاريخ القضاء التونسي لتكريس مبدأ استقلالية السلطة القضائية من خلال الإصلاح الهيكلي والوظيفي للمجلس الأعلى للقضاء الذي يعد إرسائه من أهم الاستحقاقات الثورية، فإن إصلاح القضاء وضمان استقلاله يعتبران شرطين أساسيين لضمان الممارسة الديمقراطية في دولة تحترم سيادة القانون. لذلك، لا بدّ من اقتراح الأسس الكفيلة بهذا الإصلاح المتكامل، والتي يمكن أن تتجسد ضمن ثلاثة مقومات.
استكمال البناء التشريعي لجهاز القضاء الإداري
حيث ومن الضروري في هذا السياق تطوير تنظيم القضاء الإداري بمراجعة القانون المتعلق بالمحكمة الإدارية والنظام الأساسي للقضاة الإداريين، وذلك على ضوء الدستور الجديد للجمهورية التونسية الذي أعاد هيكلة السلطة القضائية. فقد نصّ الفصل 116 من الدستور والمتعلق بالقضاء الإداري أن هذا الأخير يتكون من محكمة إدارية عليا ومحاكم إدارية استئنافية ومحاكم إدارية ابتدائية بما يفترض اعتماد خارطة قضائية للاختصاص المكاني تتناسب مع التوسع العمراني والكثافة السكانية والتقسيم الإداري مع ضرورة اعتماد معايير واضحة لتحديد الإختصاص الترابي[7].
التكوين والتأهيل المستمر وتنمية القدرات البشرية عن طريق الإشراف على المسار المهني للقضاة
يبتدئ المسار المهني للقاضي من انتدابه إلى حين بلوغه سن التقاعد القانونية، إذ تختلف درجة تكوين كلّ قاض حسب الرّتبة والهيكل الذي ينتمي إليه، بما يفرض ضبط معايير موضوعية يجب أن تتسم بالشفافية والمساواة بين جميع القضاة سواء المسيرين للجهاز القضائي أو المعتمدين لدى القنصليات التونسية، مع الأخذ بعين الإعتبار أهمية الكفاءة والمقدرة على ممارسة مختلف الاختصاصات القضائية ، لذا فإن المعهد الأعلى للقضاة مطالب بإيجاد السبل الكفيلة للتكوين المستمر وتأهيل القضاة وتنمية قدراتهم البشرية.
ويقتضي ذلك وضع الحدّ الأدنى من المعايير التي يجب أن تتوفر لدى المرشح لتولي منصب القضاء وتأمين التكوين الجيّد له على الصعيدين العلمي والعملي، وهو ما يتطلّب بدوره مراجعة مستمرّة المنظومة الانتداب. كما يشمل ذلك أيضاً إتاحة الفرصة للقاضي لتنمية ثقافته القانونية عبر مشاركته في الندوات والدورات المتخصّصة لمناقشة المتغيّرات القانونية وكذلك التشريعات المستحدثة وما يفرزه العمل من صعوبات في التطبيق وإتاحة الإمكانيات البشرية التي ترتكز بالأساس على القضاة ومساعديهم، فالقاضي يجب أن يكون ذو كفاءة عالية وعليه عدم الاكتفاء بالتكوين القانوني الجامعي فقط و إنما من الضروري أن يتواصل التكوين المستمر ومواكبة التطورات التشريعية العالمية والانفتاح على المحيط الخارجي، ففي الجانب الإقتصادي مثلا على القاضي الاهتمام بالمسائل التي تهم الجانب المالي وكذلك قوانين التجارة العالمية والاقتصاد والمحاسبة والشؤون الاجتماعية.
تدعيم الجانب البشري والمادي للجهاز القضائي
يمر هذا التدعيم البشري ضرورة عبر توفير الأجر الكافي للقاضي الذي يجعله في غنى عن الإلتجاء إلى أي باب من الأبواب التي تضعف مكانته وممارسة مهامه بعيدا عن الإغراءات المادية، إضافة إلى ضرورة تحسين ظروف العمل بتوفير المكاتب والأجهزة والأدوات اللازمة. وكذلك ضرورة مراجعة النظام الأساسي للقضاة، عبر سن قانون أساسي جديد منظم للمهنة يكون ملائما للعصر وتحدياته الراهنة ليعوض القانون القديم الذي يعود لسيتينيات القرن الماضي، ويحمي القضاء من أية إنزلاقات في اتجاهات سياسية أو اجتماعية خاطئة، علاوة على التسريع في استكمال البناء المادي للجهاز القضائي الإداري وتوفير الأجهزة التي تساعد القضاة في ممارسة مهامهم.
التوصيات :
-ضرورة فتح حوار شامل وجدي بين المتدخلين (المجلس الأعلى للقضاء والهيئات التّمثيليّة لمساعدي القضاء والمحكمة الدّستوريّة في حال إرسائها أو الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين…) بهدف وضع خارطة طريق واضحة لإصلاح المنظومة القضائية.
-العمل على تكريس مبدأ استقلال الجهاز القضائي عبر مراجعة النظام الأساسي للقضاة
-على مجلس النوّاب، التسريع في ضبط القوانين الأساسية للمهن المتدخلة في المنظومة القضائية مثل عدول الإشهاد والتنفيذ.
-على المجلس الأعلى للقضاء الإشراف على استكمال بناء الجهاز القضائي الإداري وإنهاء العمل بنظام ازدواجية الاختصاص.
[1] موقع وزارة العدل التونسية، لمحة تاريخية، متاح على: https://bit.ly/2L8RxM5 (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 7 ديسمبر 2020، 09:30) [2] تاريخ القضاء في تونس، الموسوعة التونسية المفتوحة، متاح على: https://bit.ly/37KxgUK (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 7 ديسمبر 2020، 09:31) [3] المرصد الإعلامي للقطاع الأمني، 27 سبتمبر 2018، متاح على: https://bit.ly/2Ikionq (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 7 ديسمبر 2020، 09:47) [4] المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، تقرير اختصاص القضاء الإداري على محك الحق في التقاضي واللجوء إلى القضاء، 2018، https://democracy-reporting.org/wp-content/uploads/2018/03/DRI-TN-Rapport-La-comp%C3%A9tence-de-la-juridiction-administrative-en-Tunisie-%C3%A0-l%C3%A9preuve-du-droit-dacc%C3%A9s-%C3%A0-la-justice_AR.pdf (وقع الاطلاع عليه بتاريخ 7 ديسمبر 2020، 09:48) [5] نجوى السايح، “تأثير المنظومة القضائية على الشأن الاقتصادي: إصلاحات لا بد منها من أجل قضاء دافع للتنمية”، نشر في: جريدة الخبير، 14 جانفي 2016، http://lexpertjournal.net/?p=3969 (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 7 ديسمبر 2020، 09:54) [6] بسمة بركات، “جدل بين القضاء والحكومة التونسية: مخاوف على استقلالية المؤسسات”، نشر في: العربي الجديد، 8 ماي 2020، https://bit.ly/37Fmr6C (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 7 ديسمبر 2020، 09:59) [7] https://legal-agenda.com