بحث

جار التحميل...
مشاركة

مقدمة 

يبدو أن مشروع البناء القاعدي هو سقف التغيير الذي يريده الرئيس قيس سعيد. رغم عدم ذكره كرئيس إلى حد الآن، إلا أنه كمرشح قد أشار إليه بشكل مختزل، ولم يلق رد فعل من الساحة السياسية والفكرية في حينها. أساسا بسبب حالة الإنفصال التي تعيشها هذه الساحة عن محيطها ما أدى إلى تجاهل إمكانية أن يجد مشروع مماثل طريقه للتطبيق. لعل ذلك ما جعل العديدين يدعمون قيس سعيد كمرشح معتقدين أنه غير قادر على تغيير قواعد اللعبة السياسية التي كانت إلى وقت قريب بيد أطراف معينة، تتقارب وتتباعد حسب مواقعها ومصالحها.

للمشروع ملامحه وطبيعته وعناصره الخاصة التي فرضت نفسها تدريجيا. وأصبح اليوم محددا للمعادلة السياسية والتغيرات القادمة. تحمل القرارات والإجراءات المتخذة لحظات تمهيدية للمشروع، وهي تعول على اخماد المبادرة والمعارضة وحشد الجميع حول المشروع. الأخير في جوهره قلب هرم السلطة وإلغاء دور النخب والمنظمات الوسيطة، وفق تصور خاص عن الشرعية والمشروعية.

مشروع البناء القاعدي: الثورة من داخل الشرعية

تبلور مشروع البناء القاعدي انطلاقا من ظروف ذاتية وموضوعية ليصبح عنصرا رئيسيا في جميع الإجراءات والقرارات والخطابات ليعبر عما يعتبره “ثوريا” داخل أطر الشرعية التي يسعى لتجديدها. فهو يتقدم كإستثناء “ثوري” يعبر مسار الإنتقال الديمقراطي، والقانون والدستور منذ 25 جويلية، وصولا إلى ترجمة المشروع وآلياته.

الحملة التفسيرية: من الثورة إلى الدولة

الحملة التفسيرية هي حملة انتخابية غير اعتيادية؛ سعت منذ البداية إلى الإنفصال عن الفضاء السياسي المُهيكل بهدف أن تصبح بديلا عنه. رفضت الحملة التمويل العمومي وتمويل الخواص من رجال الأعمال. لم يكن لها ناطقون رسميون ولا هيكلية ظاهرة، وهو ما أعطاها طابعا أفقيا. اعتمد الناشطون في الحملة على التشبيك الإفتراضي عبر مجموعات وصفحات الفيسبوك، ورد جزء منها في تقرير محكمة المحاسبات، بالإضافة إلى نشاط ميداني مُبسّط. كما رفض المرشح قيس سعيد الظهور في وسائل الإعلام التقليدية تأكيدا على تجاوزها كواسطة نقل وتشكيل خطاب ورأي.

نجحت الحملة في إرباك النمط الديمقراطي للتواصل الذي يفترض وسائط عديدة، سعى الوسط الإعلامي طيلة العشر سنوات الأخيرة إلى فك الارتباط بينه وبين مراكز القرار السياسي والمالي. كما تم استحداث هيئات رسمية ومدنية لمعاضدة هذا الجهد، لكن الرأي العام والمزاج الشعبي لا يزال رافضا أو متشككا إزاءه. ضمن هذه السياقات، صعدت رمزية قيس سعيد بكل تلك الحمولة الإنفصالية عن كل ما تم بناءه.

خيّر قيس سعيد وأنصار البناء الديمقراطي عدم الترشح إلى انتخابات 2014 وانتظار انتخابات 2019. الأخيرة “كانت اللحظة التي كنا ننتظرها منذ 2011″، على حد عبارة رضا لينين[1]. هي اللحظة التي بلغ فيها الإنتقال الديمقراطي أوج أزمته بالتوازي مع أزمة اقتصادية واجتماعية مستفحلة. منذ 2019، أصبح الرئيس قيس سعيد عنصرا مؤرقا في المعادلة السياسية. لم يكن مرشحا للسلطة بل للثورة كما يراها ومن أجل الدولة كما يراها. وكررت جل خطاباته هذه الثنائية كما عكستها مواقفه السياسية بدء بأزمة الصلاحيات بين السلطات وتأويل الدستور وصولا إلى رفض أداء اليمين لوزراء حولهم شبهات فساد[2]. ضمن هذا السياق، اتخذ الرئيس قيس سعيد قرارات 25 جويلية التي احتكمت للخلفية نفسها: خلفية الثوري والوطني والشعبي الأخير، أي خلفية الإستثناء التاريخي التي يجب أن تُترجم واقعا.

قرارات 25 جويلية: الإستثناء العابر للقانون

تواترت التعليقات والشروحات القانونية للإعلان عن الحالة الإستثنائية يوم 25 جويلية، لكن الأهم هو الإستثناء الذي خلقته استراتيجية تركيز مشروع البناء الجديد. الإستثناء السياسي الذي يملك فيه رئيس الجمهورية (كما يؤكد أنصار المشروع) حرية الاختيار وكيفية التطبيق. وذلك طبقا لعقد بين الرئيس وأنصار المشروع في إطار المسار الثوري التراكمي.

اعتبر الرئيس قيس سعيد في خطاب 25 جويلية أن الخطر الداهم نابع من مؤسسات الدولة وخاصة البرلمان ورئاسة الحكومة. وهي السبب في تعطل دواليب الدولة بل وتهديد وحدتها ووجودها.

أعلن سعيد عن احترامه للدستور ونيته للعمل به دون تعليقه: ” ليس تعليقا للدستور وليس خروجا عن الشرعية، نحن نعمل في إطار القانون، ولكن إذا تحول القانون إلى أداة لتصفية الحسابات وإذا تحول القانون إلى أداة لتمكين اللصوص الذين نهبوا أموال الدولة وأموال الشعب المفقر، إذا كانت هذه النصوص بهذا الشكل فهي ليست بالقوانين التي تعبر عن إرادة الشعب بل هي أدوات للسطو على إرادة الشعب. نحن هنا نتحمل مسؤوليتنا أمام الله وأمام الشعب وأمام التاريخ…[3]” 

تمثل إرادة الشعب عنصرا محوريا في تصور مشروع البناء الجديد، وهي مهمة تاريخية وأخلاقية. تبدأ باستعادة القانون من يد مستغليه، وأولهم مجلس النواب والرأس الثاني للسلطة التنفيذية. وقد ذهب الرئيس في تأويل الفصل 80 الى أبعد مدى ممكن من أجل ضمان شرعية قراراته، خاصة أنه يمثل جهة التأويل الوحيدة في غياب المحكمة الدستورية. بالنظر إلى أن التغيير في إطار المشروع المراد بناءه لا يزال الهدف الرئيسي، فإن ما بقي من الدستور هو في فكره تعبير قانوني عن إرادة الشعب، كما ستترجم ذلك الإجراءات والقرارات التي سيتخذها الرئيس نفسه. وقد جاء الأمر الرئاسي عدد 117 يوم 22 سبتمبر [4]2021 لوضع اللبنات الأولى للمرور إلى الدستور والقانون الجديدين، حسب تصور المشروع. بالإضافة إلى بداية الحديث عن “شعب المشروع”، للمرور من التماثل بين الشعب والقائد شعبويا، إلى التماثل وفق تصور مشروع البناء القاعدي الذي سيضمن تطابق الشرعية مع المشروعية.

بدأت هذه المرحلة بتجميع السلط وفق رؤية إصلاحية يديرها رئيس الجمهورية منفردا. أضحى بذاك الرئيس جهة التنفيذ والتشريع فيما بقيت نسبيا السلطة القضائية معزولة عنه. لذلك تحول الصراع تدريجيا بين رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء. وهو خلاف يمس من ملفات عديدة، خاصة منها إصلاح القضاء وقضايا حقوق الإنسان. وبسبب إنغلاق المسار الإصلاحي للرئيس يغيب العمل المشترك بينه وبين ممثلي القضاة (جمعية القضاة مثلا…). الأمر الذي يفترض لجوء الرئيس مستقبلا لاستعمال كل الصلاحيات (ضمن ذهنية الإستثناء) لخلق الحل. وهو ما يتم تداوله عن إمكانية حل المجلس الأعلى للقضاء.

الأمر عدد 117 : خروج سلس إلى ما بعد دستور 2014

فعليا يُعتبر هذا الأمر تنظيما مؤقتا للسلط العمومية (دستور صغير)[5]. شمل من حيث المضمون تنظيما للصلاحيات التشريعية والتنفيذية. يثبت هذا الأمر الإستثناء السياسي الذي يتخلل القرارات والإجراءات والأوامر التي يصدرها رئيس الجمهورية خلال هذه الفترة. 

 يعيد الأمر التأكيد على سيادة الشعب و على الآليات المتعلقة بممارستها. لا يمكن هنا الحديث إلا عن الخلفية الثورية التي يستند إليها مشروع البناء الجديد لفهم هذا التنصيص. يستخدم “الخطر الداهم” كمرحلة الأولى لتركيز المشروع، وهي لحظة 25 جويلية التي أنهت دور السلطة التشريعية والحكومة في إطار إنهاء الأشكال والإجراءات التي تتعارض مع مبدأ سيادة الشعب. من المفيد التذكير بأن المشروع وأنصاره، كما جاء على لسان الرئيس قيس سعيد، يعتبر أن منظومة المسار الإنتقالي تتعارض تماما مع المسار الثوري وتراكماته بما فيها دستور 2014. يبدو أن الأخير يحضر في الحقيقة ليتم تغييبه تدريجيا. فالفصل 80 والتوطئة والباب الأول والثاني هي ما بقي منه. لكن الأحكام المتعلقة مثلا بتعديله قد تم تجاوزها؛ وهي الواردة بالباب الثامن. فحتى ما بقي منه يمكن تعديله وتنقيحه أو إلغاءه. ما يسمح بالقول أن السبب من الإبقاء عليه هو الإستثناء السياسي والضرورات المرتبطة بتحقيقه.

وضع الأمر 117 المراحل القادمة لتركيز المشروع السياسي. ولضمان التقدم دون تعطيل وضع حصانتين تضمنانه. يحتكر رئيس الجمهورية صلاحيات التشريع في مجالات القانون الإنتخابي والصحافة والإعلام والنشر إلى جانب مجالات تشريع أخرى، ويتم إصدار مراسيم بخصوصها. أفاد الفصل السابع أنها غير قابلة للطعن فيها بالإلغاء. ولمزيد تحصين هذه المراسيم تم إلغاء الهيئة العليا لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، رغم أن القانون المنظم لها لا يمنحها صلاحية الرقابة على المراسيم[6]. يسمح تأكيد النص على ما هو بديهي أن الأمر يشغل “المشرع” (رئيس الجمهورية) ضمن رؤية سياسية أكثر منها قانونية صرفة.

أما الوجه الثاني للحصانة في الأمر 117، يتعلق بالإصلاحات السياسية. وهو ما جاء في الفصل 22: “يتولى رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي.

ويجب أن تهدف مشاريع هذه التعديلات إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب بالفعل هو صاحب السيادة يمارسها بواسطة نواب منتخبين أو عبر الاستفتاء ويقوم على أساس الفصل بين السلط والتوازن الفعلي بينها ويكرس دولة القانون ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية وتحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر 2010 في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، ويعرضها رئيس الجمهورية على الاستفتاء للمصادقة عليها”.

أعادت الفقرة الثانية التأكيد على الشعب وسيادته ومهمة وضع “نظام ديمقراطي حقيقي”. وضع الفصل هذه المهمة حصريا بيد رئيس الجمهورية فهو من يتولى وضع مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية، وهو الذي يعرضها على الاستفتاء. ووجه التحصين هنا، هو عدم إمكانية الرقابة على القوانين الإستفتائية. الأمر الذي يؤدي إلى تحصين كل القوانين التي ستضعها رئاسة الجمهورية منفردة، في الوقت الذي تلعب فيه اللجنة دورا مساعدا لا غير.

حضر خيار اللجوء إلى الإستفتاء أيضا في الفصل 15 من الأمر 117، حيث يمكن له أن يعرض أي مشروع مرسوم على الإستفتاء. وهو ما يفترض أن تكون حالة القانون الإنتخابي الذي روج له أنصار المشروع خلال الفترة السابقة. وقد تم عرض بعض تفاصيله في مقال [7]سابق.

أكد الأمر عدد 117 أن الإستثناء العابر لمسار الإنتقال الديمقراطي والعابر للقانون قد بدأ فعليا في عبور المؤسسات من أجل التمهيد لآليات ترجمة البديل.

قرارات 13 ديسمبر: آليات ترجمة المشروع

استبق الرئيس قيس سعيد يوم 17 ديسمبر بإعلانه عن قرارات جديدة[8] وضعت جدولا زمنيا أقل ما يقال عنه أنه خريطة طريق مشروع البناء الجديد، من أجل تصحيح مسار التاريخ وتصحيح مسار الثورة. إنها تهدف أساسا إلى ضمان تعبير الشعب عن إرادته في إطار [9]”شرعية مشروعة”، كما جاء في كلمة رئيس الجمهورية.

تنطلق مع شهر جانفي إلى 20 مارس 2022 إستشارة وطنية. وسيتم اعتماد منصة رقمية في الغرض بالإضافة إلى استشارات في المعتمديات. يذكر ذلك باستراتيجيات الحملة التفسيرية ومشروع البناء الجديد الذي يركز على المحليات.

 تتولى لاحقا لجنة الأمر 117 التوليف بين ما يرشح من الإستشارات الرقمية والمحلية لوضع ملامح الإصلاحات السياسية. يعود تاريخ 25 جويلية مرة أخرى برمزيته ليصبح موعد الاستفتاء عليها. يعود أيضا تاريخ 17 ديسمبر برمزيته، التي أضحت رسميا عيدا للثورة بدلا عن 14 جانفي[10]، ليتم تنظيم الإنتخابات التشريعية وفق القانون الإنتخابي الجديد. في آخر حوارات رضا شهاب المكي[11]، يمكن ملاحظة أن الإتصالات القائمة بين الرئيس والأطراف السياسية والنقابية كانت مشروطة جدا ويكاد سقفها أن يكون مرتبطا اساسا بمشروع البناء القاعدي أو عناوينه الكبرى. انحسر خيار الحوار المفتوح والتشاركي الذي يضم جميع الأطراف والتنظيمات لصالح التوجه الآحادي الذي يقوده الرئيس وأنصاره.

في المقابل، يبدو خيار الإستشارات مضطربا ومنغلقا، خاصة أن ما يُتداول من أسئلة في المنصة لم تحظ بنقاش عام ولا بمساهمة تشاركية وتمثيلية في بلورتها، ومنها ما هو تقني ويتطلب حدا أدنى من المعرفة القانونية والسياسية (النظام البرلماني/الرئاسي..) ينضاف ذلك إلى الحالة الشعبوية السائدة.

من الناحية التقنية، شهدت عملية التحضير وإطلاق منصة الإستشارة الوطنية نقائص عديدة وتأخيرا عن المواعيد التي أعلن عنها. لم [12]يكن للمجتمع المدني حضور موسع في العمليات البيضاء. وهو ما أكدته منظمة أنا يقظ في بيان لها بهذا الخصوص.

ليس ذلك ببعيد عن الإستفتاء. الأخير ليس ديمقراطيا بالضرورة وليس تعبيرا أكيدا عن سيادة الشعب. فتوجيه الإستفتاء ممكن جدا خاصة إذا كان موضوعه موسعا أو متعلقا بنصوص قانونية كاملة. هذا ويذكر أن الإستشارات وعمل اللجنة تنتهي، حسب ما صرح به الرئيس، في موفى شهر جوان. ما يُبقي 25 يوما لإستفتاء شهر جويلية، وهي مدة قصيرة نسبيا.

يعتبر الإستفتاء أداة غير تداولية، باعتبارها تحسم القضايا الخلافية باسم الديمقراطية المباشرة، ولكنها مفيدة للتداول الديمقراطي[13]. وهو ما يعني أنها يجب أن تكون مسبوقة بحوار وتداول وموسع بين المواطنين من أجل ضمان تشكل حر وطوعي للخيارات. أما خلاف ذلك فيعني أن تزويرا ما يمكن أن يحصل، فيؤدي لضرب الديمقراطية.

مآلات مشروع البناء القاعدي: أية فرص للتدارك؟

رغم أن المشروع حاضر بقوة خطابا وممارسة لكن فرصة التدارك قائمة، وترتبط أساسا بما بادر إليه الرئيس قيس سعيد وبقية الأطراف من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني وإعلام. رغم أن المشروع وتكريسه الأولي في المؤسسات (التعيينات على المستوى المركزي والمحوري) والنصوص يتجاهل هذه الوسائط إلا أنه يشتغل بدوره كوسيط ، ذلك أنه أيضا يسعى للتعبير عن الواقع وإرادة الأفراد. ويُقدّم لذلك تصورا عنها ويختزلها كما هو شأن كل الوسائط في المجتمع. 

يبقى التحدي الرئيسي هو عدم قدرته فعليا عن أن يكون المسؤول الوحيد للدفاع عن الخيارات الوطنية داخليا وخارجيا، في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد، وفي ظل التجاذبات والصراعات (داخل مؤسسات وأجهزة الدولة) التي تحتاج منه ومن ممثليه تجاوز الإنغلاق ورفض الحوار مع التيارات والمنظمات الأخرى. لا يمكن للخيارات الوطنية أن تتبلور في ظل مسار آحادي يحتكر الثورة والشعب والدولة من أجل تجنب أصعب السيناريوهات مستقبلا.

الإستشارات والإستفتاء: رهان المشروعية وإعادة تشكل المشهد السياسي

لا طالما كان قيس سعيد، في ظل الزخم الشعبوي والشعبي، تعبيرا عن المشروعية خاصة منذ لحظة 25 جويلية. عكست الأخيرة رفضا واسعا للوضع كما كان ورغبة في التغيير. يبحث الرئيس من خلال الاستشارات والإستفتاء عن بلورة المشروعية التي تتجاوز شخصه إلى عموم الشعب. 

استند خيار 25 جويلية إلى فك ارتباط بين المشروعية والشرعية في دستور 2014. وهي الحجة الحاضرة دائما قبل 25 وبعدها. برر فك الارتباط المذكور بالتأويل المعتمد للفصل 80 وإعلان الحالة الإستثنائية. وقد أزاح بذلك تأويلا لصالح آخر. يفترض الفصل أنه بانتهاء الحالة الإستثنائية يتم العودة إلى ما قبلها لكن ذلك يسقط بتأويل الخطر الداهم؛ فالأخير خطر في المؤسسات والهياكل.

يسقط تناسق الدستور بهذا التأويل، حيث يتم التعبير عن المشروعية بأدوات الشرعية كما وردت في الدستور نفسه. لم يبق من دستور 2014 إلا الشكل. فهو الإطار العام للإنتقال إلى شرعية (انتخابات/مؤسسات) جديدة تضمن التعبير عن مشروعية جديدة. تضع القرارات والإجراءات المتخذة، بالإضافة إلى السياق الشعبوي، شروطا على تشكلهما، لكن الخيار يبقى في تحدي هذه الأطر نحو التأثير في الإستشارات ومآلات الإستفتاء عبر منافسة الرئيس وأنصاره على المشروعية، رغم أن خيار تعديل الدستور وإجراء إصلاحات في الحالة الإستثنائية يعتبر معطوبا قانونيا وسياسيا.

 يبدو ذلك تحديا كبيرا أمام المنظمات والأحزاب التي تعيش تشتتا وتواجه رفضا يعززه الرئيس نفسه، إلا أن لذلك رد فعل عكسي. ليس على هذه الأطراف المراهنة على فشل الرئيس وأنصاره، خاصة في الملف الإقتصادي والإجتماعي، إنما من الضروري أن تعمل على إعادة التشكُل والتنظّم بما يتوافق مع المرحلة، من إيجابياتها أن الرئيس قد أعاد للتداول السجل الأخلاقي في السياسة وضرورة تجديد [14]الساحة السياسية من أجل رهانات وطنية.

يبقى التحدي الثاني في مجريات الإستشارات الرقمية والمحلية. حاولت الحملة التفسيرية المتواصلة إلى اليوم كسب الميدان عبر تكثيف نشاطها في الفترة الأخيرة. وهو ما يعني أنه ثمة رهان على تكوين الدعم الشعبي وضمانه. إلا أنه ليس مضمونا بالضرورة. يمكن لحملة تفسيرية مضادة تنافس الحملة التقليدية على خطابها ومشروعيته الثورية والسياسية أن تفتح نافذة لتجديد العمل السياسي والنقابي، على المعنيين الإشتغال عليها قبل الإستفتاء. يمكن لفهم المسار ومجاراته، على هناته، فرصة لتصويبه. يعتبر ذلك فعليا فرصة لتجديد الساحة السياسية وقياداتها؛ كخيار وطني من حيث المبدأ ومفروضا واقعا.

يتحمل الرئيس قيس سعيد مسؤولية أخلاقية وسياسية قبل كل شيء ستكون حاسمة في حال خرقها. يدعو الرئيس إلى التعبير عن إرادة الشعب مشترطا ربط المشروعية بالشرعية. الأمر الذي يجعل كل توجيه وهيمنة على الإستشارات والإستفتاء حجة مضادة تمس من مصداقية مسار 25 جويلية ومشروع البناء القاعدي، خاصة أن أنصاره أنفسهم يؤكدون أن الشعب هو الفيصل ومن له القرار الأخير.

عمليا، بدأ المشهد السياسي في التغير منذ 25 جويلية، خاصة بما عرفته حركة النهضة من انقسامات أدت إلى خروج عدة قيادات تاريخية منها[15]. حمّل المستقيلون في قائمة الـ100 الحركة مسؤولية العزلة السياسية بالإضافة إلى إعلان صريح عن مسؤوليتها فيما آلت إليه البلاد بعد عشر سنوات من الحكم. تواجه الحركة اتهامات خطيرة متعلقة بالإغتيالات والإرهاب، فيما دُفع مسؤولون آخرون، بالإضافة إلى عدة إداريين للإستقالة دون أن يتم الإعلان عنها، وتهما تنتظر الفصل فيها قضائيا.

في المقابل، يعمل الإتحاد التونسي للشغل إلى لعب دور وازن في خلق خيار جديد على الساحة الوطنية. لا يزال هذا التحرك محدودا إلى حد ما لكن الإتحاد[16]، إلى جانب المنظمات الوطنية الأخرى، يمكن أن يعزز من دوره الوطني في مرحلة حساسة اجتماعيا واقتصاديا. حافظ الإتحاد العام التونسي للشغل على مسافة نقدية مع الرئيس دون التحالف مع خصومه ومعارضيه، ليبقى التحدي في إعادة التموقع وفرض تعديل الرئيس وأنصاره للمسار الآحادي إلى حد الآن.

المجتمع المدني ورهان الحقوق والحريات

أكد الرئيس قيس سعيد على ضمان الحقوق والحريات ورفض العودة عنها، مع تأكيده على حق التظاهر والتعبير في عدة مجالس وزارية. رغم ذلك لا يمكن تجاهل تردي وضعية الحقوق والحريات في الفترة الأخيرة. وهو ما يضع المجتمع المدني في واجهة التصدي للخروقات ولأي تراجع ممكن، في ظل التغطية عليها بالمسألة الاقتصادية والاجتماعية ورهنها بالمسار السياسي والقانوني. وتوالت البيانات والتحركات في هذا الإتجاه، كما تضمنت بيانات عدة منظمات إشارة إلى الحالة الشعبوية السائدة.

سبق لنقابة الصحفيين الإشارة إلى ذلك في بيانها بتاريخ 06 اكتوبر [17]2021 . حيث أكدت رفضها المطلق للمحاكمات العسكرية للمدنيين على خلفية مواقفهم ومنشوراتهم، معتبرة ذلك انتكاسة لحرية التعبير وضربا للديمقراطية وحق الإختلاف.

وجاء به أيضا رفض الحالة الشعبوية المتمظهرة في المحاكمات الإفتراضية التي تستهدف كل المخالفين “من قبل جهات تقدم نفسها بأنها داعمة لرئيس الجمهورية”. يتحمل رئيس الجمهورية وأنصاره جزء من المسؤولية في هذا الإتجاه، حيث يغلب الطابع الشعبوي الذي يحيط بالرئيس وخياراته. وقد تسبب في خلق حالة إنقسام وتخوين مستفحلة.

كما جاء في بيان منظمة هيومن رايتس ووتش[18] أن السياسات المتبعة تلغي الحقوق خاصة في ظل الإجراءات الإعتباطية، ومنها قرارات الإقامة الجبرية التي انتهت إلى الرفع بعد أن خضع ما يقرب من 50 مواطنا لها.

تتواتر أيضا أخبار الإيقافات والمحاكمات لناشطين في المجتمع المدني وسياسيين[19]، عرفت إخلالات إجرائية مع عودة استغلال اتهامات بهضم جانب موظف عمومي كغطاء للممارسات الأمنية. واجهت الناشطة مريم بريبري حكما بـ4 أشهر وغرامة بـ500 دينار على خلفية فضحها للمارسات أمنية عبر نشر فيديو على موقع التواصل الإجتماعي الفيسبوك. وهو ما يعتبر تواصل الممارسة المعهودة في [20]تونس والمهددة لحرية التعبير، حسب منظمة العفو الدولية.

في الأثناء، يواصل الإعلام التونسي محاولة اختراق السياسة الاتصالية لرئاسة الجمهورية. تعتبر الأخيرة ضربا للحق في المعلومة حيث تغيب المؤتمرات الصحفية في قصر قرطاج لحساب نشر فيديوهات على صفحته الرسمية في الفيسبوك واليوتيوب. يذكرنا ذلك بالموقف المبدئي للرئيس من الإعلام باعتبارها وسائط فاسدة. فيما تتواصل التضييقات والإعتداءات على الصحافيين، حسب منظمة الفصل [21]19. 

تساهم المواقف المتوازنة للمجتمع المدني في تجنب استغلال الملفات الحقوقية خاصة سياسيا. فيما تعتبر المواصلة في النهج الحالي للرئاسة خطأ يمكن أن يؤدي إلى أزمات كبيرة. يطرح هذا الأمر بخصوص قضايا الإرهاب والتسفير والتمويل الأجنبي واللوبيينغ. ترتبط هذه الملفات بقوى دولية سعت للتدخل في الشأن الوطني في مرحلة معينة. ويحتاج مواجهة أية تدخل مستقبلي إلى توحيد الجبهة الوطنية الداخلية مع المجتمع المدني وغيره من الأطراف، بالإضافة إلى إصلاح القضاء، ضمن مسار تشاركي، يكون فيه الأداة القانونية والمؤسسية في الفصل في هذه الملفات الحساسة.

السياق الدولي: بين رهان السيادة الوطنية والإرتهان للخارج

لم يكن السياق الدولي غائبا في كل التغيرات السابقة. انتهت صلاحية التطمينات التي أرسلها الرئيس منذ 25 جويلية حين اصطدم بواقع الأزمة الإقتصادية ودور القوى الكبرى والمؤسسات المالية المقرضة. كان مطلب التسقيف الزمني للحالة الاستثنائية متواصلا في بيانات الدول الكبرى مع الحرص على خطاب متوازن يُحيل المسألة إلى الشأن الداخلي لكن السياق الحالي، خاصة توازنات المالية العمومية ومأزق التراجع الإقتصادي، ساهما في وضع خريطة الطريق التي تستجيب للعناوين الكبرى التي يطالب بها الخارج والداخل لكنها دون محتوى واضح. ذلك أن الإستشارات الرقمية والمحلية دون تفاصيل إلى الآن. الأمر الذي يجعلها مفتوحة لكن قابلة فقط للتضمين موضوعيا بما يروج له عن المشروع وخطوطه العريضة التي تضمنتها قرارات قيس سعيد وخطاباته. 

سبق بيان مجموعة السبع[22]، قرارات 13 ديسمبر التي طالبت بتحديد سقف زمني واضح للإجراءات الاستثنائية. كما أكد أيضا على ضرورة إشراك الجميع بما في ذلك الأصوات المختلفة من الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني. ما يلاحظ أن البيان كان مشروطا للمستقبل حيث نص على أن ذلك “سيساعد على ضمان دعم واسع النطاق ودائم لتقدم تونس في المستقبل”. 

بعيدا عن البيانات الدبلوماسية، يبدو أن المواقف الدولية ستبقى في متابعة الخطوات القادمة التي ستقدم عليها تونس عن قرب. وهو ما أوضحه بيان الجمعية البرلمانية للناتو[23]، فيما تواصل عدة دول عربية أخرى إلى جانب تركيا التموقع حسب التغيرات الحاصلة منذ 25 جويلية. فعليا وجدت تونس نفسها على خطوط تحالفات اقليمية ودولية ضاغطة، على الرغم من زيارة الرئيس تبون[24] الأخيرة التي مثلت عنصر تخفيف نسبي ووحيد.

يمثل إعادة بناء البيت الداخلي الفرصة الوحيدة من أجل حماية مصالح تونس الإقليمية والدولية، مع ضرورة إصلاح الدبلوماسية التونسية ومراجعتها. 

توصيات 

رئاسة الجمهورية
  • تقديم ضمانات حقيقية لعدم توجيه الإستشارات الوطنية واللجنة المكلفة بالإصلاحات الدستورية، بالإضافة إلى ضمان عدم جعل الإستفتاء أداة للتصويت على شرعية خيارات رئيس الجمهورية ومشروعه
  • ضمان انخراط الاحزاب والمنظمات والإعلام الخاص والعمومي في المسار السياسي والإقتصادي والإجتماعي بطريقة تشاركية موسعة
  • ضمان الدور الرقابي للمجتمع المدني 
  • إيلاء ملف الحقوق والحريات الأهمية التي يستحقها، في ظل تواتر حالات الإعتداء على الصحفيين والناشطين والمتابعة الكيدية ضدهم، مع ضمان عدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية
الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية
  • إعادة التشكل والتنظم وتجديد القيادات وتشبيبها تحت سقف المصلحة الوطنية
  • تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية ومراجعة أدوارها على ضوء المرحلة الحالية ورهانات الجدول الزمني المعلن عنه
المجتمع المدني
  • التشبيك والتواصل من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات وممارسة دوره الرقابي بشكل أكبر
  • الإستعداد من أجل لعب دور رقابي على الإجراءات المعلن عنها للسنة القادمة

[1]  أسماء البكوش، لقاء حصري مع “رضا لينين” وسنية الشربطي.. من يقف وراء حملة قيس سعيّد؟، إلترا صوت، 19 سبتمبر 2019. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3t5cpYO [2]  أسامة بوذريوة، جذور الأزمة السياسية الحالية في تونس، 30 جويلية 2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3JNLfeD [3]  كلمة رئيس الجمهورية بتاريخ 25 جويلية 2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3zF2Gtl [4] أمر رئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 يتعلق بتدابير استثنائية. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3q0KpU8 [5]  الأمر عدد 117 لسنة 2021 مؤرخ في 22 سبتمبر 2021 يتعلق بتدابير استثنائية. انظر الرابط التالي: https://legislation-securite.tn/law/105067 [6]  كمال بن مسعود: الطعن في المراسيم أمام هيئة مراقبة دستورية القوانين يتعارض مع الدستور . انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3HPG3Fl [7]  خليل العربي، مشروع البناء القاعدي: حلم أم وهم داخل مسارات الثورة والديمقراطية، منصة حلول. انظر الرابط التالي: https://cutt.ly/aUKNDYQ [8]  كلمة رئيس الجمهورية للشعب التونسي، 13 ديسمبر 2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3q3yt4a [9]  كلمة رئيس الجمهورية، 13 ديسمبر 2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3qNOWIM [10] حول تغيير عيد الثورة. انظر الرابط التالي https://cutt.ly/cUK3b6m [11]  حوار مع رضا شهاب المكي، شمس فم. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3qWGZBa [12]  البوابة الإلكترونية للاستشارة الوطنية: بين التخبط وعدم الجاهزية، منظمة انا يقظ، 1 جانفي 2022. انظر الرابط التالي: https://www.iwatch.tn/ar/article/904 [13]  Maoletti Marion, Morel Laurence, « Le référendum : une procédure contraire à la délibération, utile à la démocratie délibérative », dans : Loïc Blondiaux éd., Le tournant délibératif de la démocratie. Paris, Presses de Sciences Po, 2021, p. 201-223. [14]  الصادق الحمامي، تأملات في الديمقراطية التونسية ومآلاتها، جريدة المغرب. انظر الرابط التالي: https://cutt.ly/hO2GGRe  [15]استقالة أكثر من 100 قيادي من حركة النهضة التونسية، جريدة العربي الجديد، 25 سبتمبر 2021. انظر الرابط التالي: https://cutt.ly/pUK6hvi [16] أسامة بوذريوة، مكافحة الفساد واردة مع توفر الإرادة السياسية، 25/10/2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3f0GobU [17]  بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3HFfByf [18]  تونس: سياسات الرئيس القمعية تلغي الحقوق، هيومن رايتس ووتش، 11/09/2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/31xZ5kh[19] عن آخر حالات الإنتهاك. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3qP0xHw [20]  تونس: ملاحقات قضائية جنائية بسبب التعبير على الإنترنت: القوانين البالية والمعيبة المستخدمة لتقييد التعبير في تونس، منظمة العفو الدولية، 09/11/2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3zvZ6BE [21]  تونس ـ خطوة خطيرة في الاتجاه الخاطئ، منظمة الفصل 19، 12 أوت 2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3qXxcKW [22]  مجموعة السبع تدعو تونس إلى تحديد “سقف زمني واضح” لعودة عمل المؤسسات الديمقراطية، فرنسا 24، 11 ديسمبر 2021. انظر الرابط التالي:https://bit.ly/3qTsMF4 [23] NATO PA President: return to functioning democratic institutions in Tunisia must be priority. Link: https://bit.ly/3pZzLNk [24] إيمان عويمر، تبون في ضيافة سعيد… إسناد دبلوماسي وإمداد مالي وتعاون اقتصادي، 16 ديسمبر 2021. انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3HKwyqT

المراجع الببليوغرافية
المساهم

خليل عربي

دكتور باحث في العلوم السياسية وعضو الجمعية التونسية للدراسات السياسية

العودة إلي أعلى