ملخص تنفيذي
لا يخلو النظام التعليمي في تونس من ثغرات ونقائص واضحة طالت الصحّة النفسيّة للتلاميذ حيث أصبح التلميذ التونسي اليوم كثير القلق والتوتّر خاصة في غياب نظام تعليمي يضمن له الابداع والتميّز و إطار تربوي غابت في البعض منه الأساليب البيداغوجيّة والقيم الأساسيّة فأصبحت المؤسسات التربويّة تعكس مجتمع غير مستقر وغير متّزن عقليّا وهو ما على الدولة تفاديه باتخاذ تدابير فوريّة ومستمرّة في الزمن ذلك أن التلميذ هو محور العمليّة التعليميّة والمكوّن الأساسي من دونه لا معنى لمثل هذه المؤسسات ولا لمهنة التعليم في حالة تهميش هذه الفئة والتعسّف على صحتهم النفسيّة.
مقدمة
يعتبر التعليم معيارا لتقييم حداثة الدول وتطورها، لذلك يجب أن يتماشى مع مقتضيات العصر فيكون هدفه اكساب التلاميذ عامة مهارات حياتيّة[1]. أي أن التعليم في مفهومه الحديث لا يقتصر على جودة الجانب الأكاديمي فقط “حيث لم يعد مقبولا الاكتفاء بالقراءة والكتابة والحساب”[2] بل يشمل بناء شخصية مستقرة ومتوازنة قادرة على التأقلم مع أي ظرف ومجابهة الصعوبات الحياتية خارج أسوار المؤسسة التعليمية وخاصة الانخراط في سوق الشغل باكتساب مهارات أصبحت ضرورية ومطلوبة من أصحاب العمل[3].
وبناء شخصية متوازنة للتلاميذ يحملنا للحديث عن صحتهم النفسية وهي حسب تعريف المنظمة العالمية للصحة “ليست مجرد انعدام الاضطرابات النفسية فقط بل هي جزء لا يتجزأ من الصحة” أي لا تستقيم الصحة من دونها. وفي هذا الإطار نص دستور المنظمة على أن ” الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا، لا مجرد انعدام المرض والعجز”
وبما أن التلاميذ يقضون معظم وقتهم داخل مؤسساتهم التربوية فإنه من الضروري أن يكون الهدف الأسمى للتعليم تنمية قدرتهم على الابتكار والإبداع لبناء شباب فاعل في المجتمع لا فقط شباب حامل لشهادات عليا دون مقومات النجاح في الحياة العمليّة وحتى الشخصيّة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بالاهتمام بالصحة النفسيّة.
المؤسّسة التربويّة تؤثر سلبا على الصحّة النفسيّة للتلاميذ
يشكو قطاع التعليم اليوم كغيره من القطاعات من عدم استقرار ويظهر ذلك من خلال فشل محاولات الإصلاح وتغيير
الأنظمة التعليمية والبرامج بصفة متواترة وكثرة الإضرابات من الأساتذة والقيميين وهو ما أثر وبشكل كبير على نفسيّة التلاميذ ودافعيّتهم للتعلّم ومما زاد في تفاقم الأوضاع بروز الأزمة الصحيّة الراهنة المتعلّقة بالكوفيد-19 والذي جعل نسبة المشاكل النفسيّة في تزايد مستمر وخاصة أن هذه الجائحة لها آثار نفسيّة طويلة المدى.
المؤسّسات التربويّة تعكس المجتمع بمكوّناته وضغوطاته النفسيّة والمعنويّة
المدرسة هي مثال مصغّر للمجتمع تعكس اختلافات مكوّناته ومشاكلهم والطبقيّة الموجودة تزيد من حدّة هذه المشاكل. فالتلميذ يجد نفسه بين زملائه المنتمين إلى طبقات مختلفة قابل للتأثر بحكم سنّه وبحكم أنه غير قادر على تمييز الصواب من الخطأ وهنا نؤكّد على هشاشة الفئة العمريّة بين 13-15 أي تلاميذ المرحلة الإعداديّة دون إقصاء باقي الفئات العمريّة، حيث من الممكن أن تؤثر الفوارق الاجتماعية سلباً على نفسية التلاميذ لتعزيز مشاعر الاغتراب والغيرة وحتى العزلة والانطواء وهو ما يحملهم إلى السخط على العائلة أو المجتمع.
كما يمكن لهذه الفئة الهشّة الإقبال على تعاطي مختلف أنواع المواد المخدرة وهي ظاهرة متفشيّة في المعاهد وحتّى المدارس الابتدائيّة تمثل حقيقة مفزعة خاصة وأن الأرقام كارثيّة اذ أن الجمعيّة التونسيّة لطب الإدمان[4] قاموا بإعداد دراسة أثبتت نتائجها أن نصف التلاميذ قد جربوا التدخين والمخدّرات كما أن عدد المدمين يفوق الـ 400 ألف مدمن على المخدرات والكحول ويجدر الإشارة إلى أن “الواقع قد يفوق الأرقام” حسب تصريح السيّد نبيل بن صالح رئيس الجمعيّة التونسيّة لطب الإدمان.
في الأخير يجدر القول بأن اقتصار العمليّة التعليميّة على “التعليم” فقط والتغاضي عن “التربية” خطأ جسيم يرتقي لتكوين ثغرة يجب تفاديها وهي ليست مسؤوليّة الأسرة فقط بل هي تندرج في صلب وظيفة[5] المؤسّسة التربويّة كما يدل عليها اسمها.
نظام تعليمي فاشل: سبب في انخفاض فاعليّة التلاميذ ومردوديتهم
من الطبيعي أن يكون للعبارة “نظام تعليمي فاشل[6]” وقع صادم وذلك لما عهدنا تميز قطاع التعليم في تونس وتفوقه على نظرائه العرب وحتى على المستوى العالمي سابقا، إلا أن هذا التميز لم يعد واقعا مسلّما بل أصبح مطلبا منشودا ويعود ذلك لتراجع جودة [7]التعليم في تونس وانحداره حتى الفشل وهو ما يمكن برهنته من خلال نتائج البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISAProgramme international pour le suivi des acquis des élèves )
يمكن تقسيم هذا المشكل المتعلق بالنظام التعليمي لمستويين اثنين: من جهة كثرة البرامج المكررّة على طول المسار التعليمي والنظام التقييمي الذي يثبت فشله يوما بعد يوم من جهة أخرى.
أما بالنسبة للبرامج المتكررّة فإنها تجعل ساعات الدراسة أطول من دون فائدة تذكر فقط دروس ومعلومات غير متجددة تجعل الأساتذة تعتمد تقنية التلقين وليس البحث والتفكير فتقتل كل فرصة للابتكار واستخدام العقل لدى التلميذ ليستسلم بدوره للحفظ بدل الفهم وذلك ليجتاز الاختبارات ثم ينسى كل ما حفظه وهكذا في كل مرّة[8]. كما أن ساعات الدراسة على فترتين صباحيّة ومسائيّة مع تجاهل الأنشطة الفنيّة، الثقافيّة والرياضيّة التي من شأنها خلق توازن بين كل ما هو أكاديمي وكل ما يحرّك في التلميذ القدرة على الخلق والابداع وصقل المواهب وخاصة التقليص من الانعكاسات السلبيّة للضغط وما يمكن أن ينجرّ عنه من اكتئاب أو قلق.
أما بالنسبة للنظام التقييمي الذي يعتمد على أعداد وملاحظات من شأنها أن تدمر نفسيّة التلميذ، فالخوف الدائم من الفشل يصبح المحرّك الأساسي للدراسة وليس الوعي بقيمة التعلم أو حبّا فيه[9]. فالتلميذ يجد نفسه بين ضغط الأولياء وضغط المدرسين وضغط داخلي نابع من الرغبة في النجاح والتألق وبذلك يغيب الاجتهاد كقيمة لإثبات الذات ليصبح التلميذ يبحث عن الأعداد بأي طريقة كانت حتى الغش[10] ليصبح الهدف نيل أعداد عالية وليس النهل من المعارف المختلفة.
فتتحول بذلك المؤسسة التربويّة إلى “مصنع امتحانات” ونرى في تونس في الأزمات السياسيّة أو الصحيّة تبحث عن “إنجاح” السنة الدراسية وهذا النجاح يتمثّل في اجتياز الاختبارات وليس في انهاء البرامج على أكمل وجه.
تكوين بيداغوجي ضعيف للإطار التربويّ
إن نقص التكوين البيداغوجي يمكن أن يجعل من المدرسين غير قادرين على التأثير الإيجابي في التلاميذ وغير واعين بأهميّة سلامة الصحة النفسيّة لدى التلاميذ وقدرتها على التأثير على المستوى الدراسي.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن أغلب المعلمين لم يتمّ التركيز خلال تكوينهم على المواد التي تهتم بالصحّة النفسيّة
وبأساسيّات البيداغوجيا فعلى الرغم من تعدد هذه المواد كمادّة التربية المختصّة، فلسفة التربية، تنشيط تربوي، أخلاقيّات المهنة ما قبل التعلّم المدرسي… إلا أنها لا تكون بنفس القيمة مقارنة بالمواد الأساسيّة حيث أنه على عكس هذه الأخيرة لا تكون للغيابات في حصص هذه المواد تأثير كبير على النتائج كما أن الضوارب عادة ما تكون أقل من المواد الأساسيّة كالعربيّة والحساب…
كما أنه وحسب شهادات لمعلّمين من مختلف الأجيال لم تكن تلك المواد هي الأخرى تدرس بطريقة تضمن التفاعل وتضمن تطبيقها على أرض الواقع بل هي دروس نظريّة متراكمة يصعب تطبيقها مع أول تجربة عمليّة خلال فترة “التربص”، ومن أكبر التحديّات التي يواجهونها عدم تخصيص الوقت الكافي والمساحة اللازمة لتطبيق ما تم تدريسه خاصة مع غياب النوادي والتجهيزات ليكون تدريس هذه المواد لا هدف منه بل يتم إدراجها كمواد صوريّة.
فمنذ مرحلة تكوين المعلمين أو الأساتذة يركز النظام التعليمي في تونس على الجانب المعرفي متجاهلا كل ما هو نفسي، حسّي وفنّي لينتج رجال ونساء تعليم فاقدين، أغلبهم على الأقل، لأسس التربية البيداغوجيّة اذ نجد بعض الأساتذة تمارس بدورها ضغط على التلميذ لدرجة تصل إلى التنمر عليه أو جعله موضوع سخرية سواء بنقد مستواه الدراسي أو حتى الاجتماعي والجسدي.
فالأستاذ أو المعلّم بهذا الشكل يقوم بتنفير التلميذ من المادة التي يدرسها أو حتى من المدرسة ككل، كما أن مثل هذه المعاملات تجعله اما شخص متنمّر يقوم بإعادة هذا السلوك مع زملائه أو العكس تماما يصبح منعدم الشخصيّة يقبل بمثل هذه المعاملات وهو ما من شأنه أن يهزّ ثقته بنفسه ويسلبه كل قدرة على التعبير وينجرّ عن هذا حتما جملة من التعقيدات النفسيّة، إلى جانب تردّي مستواه الدراسي الذي يمكن أن يظهر للآخرين دون مبرر أو سبب يذكر وذلك لغياب هيكل داخل المدرسة يقوم بمراقبة مثل هذه التجاوزات ويتخذ اثرها الإجراءات اللازمة.
تدابير جذريّة: ضرورة ملحّة لاستقرار الصحّة النفسيّة للتلاميذ
يقول الاتحاد الوطني للمعلمين بإنجلترا “إن التعليم ينبغي أن يكون تجربة تتسم بالبهجة”[11] وهو ما تؤكده مقولة “علّم الأطفال وهم يلعبون” أي أنه من الضروري أن يحب التلاميذ طلب العلم ولا فقط الاقتصار على الدراسة وقت الامتحانات بل يتجاوز التعلم كونه غاية في حدّ ذاته فقط ليصبح وسيلة لبناء شخصيّة فعالة في المجتمع و للوصول لهذا الهدف يجب اتخاذ التدابير اللازمة على مستوى وطني فالمعلم أو الأستاذ بمفرده لن يغيّر منظومة بأكملها على الرغم من وجود تجارب ايجابيّة لبعض الأساتذة والمعلّمين لكنها تبقى محدودة نظرا لغياب خطة وطنيّة شاملة وهو ما فاقم الحاجة إلى تعميم هذه التجارب الإصلاحيّة على كامل البلاد لتعمّ الفائدة.
تغيير الأنظمة التعليميّة: مطلب جماعي لا يقبل التأجيل
تمّ التطرّق في ملخّص سياسي سابق[12] إلى أهميّة إنشاء مجلس أعلى للتربية وهو ما يمكن أن يجعل تغيير النظام التعليمي ممكنا بطريقة سلسة وخاصّة توافقيّة بين مختلف الأطراف، فهذا المجلس سيكون المنسّق بين مختلف المتدخلين في العمليّة التعليميّة والجامع بين مختلف الآراء والرؤى ليتخذ في الأخير قرارات من شأنها إحداث تغيير شامل.
لا يقتصر التغيير على تغيير شكلي أو جزئي بل يجب أن يطال المنظومة التعليميّة في تونس تغييرا جذريّا لا يحتمل التأجيل بتعلّة أنّ الأولويات اليوم تكمن خاصّة في الأوضاع السياسيّة، فالتعليم من أهم المجالات الحيويّة التي لا يمكن التراخي في إصلاحه بل هو مطلب ملحّ لمختلف الأطراف المعنيّة من أساتذة ومعلمين وتلاميذ وأولياء وهذا القطاع يهمّ كل فئات المجتمع كما يؤثر على باقي القطاعات.
ويجب أن يتم هذا التغيير بعد دراسات معمّقة يقوم بها عدد من الخبراء في المجال وتجمع بين مختلف المبادرات وتتم تحت إشراف المجلس الأعلى للتربية كما يجب أن تكون مستلهمة من التجارب المقارنة دون التخلّي عن خصوصيّة التعليم في تونس والأخذ بعين الاعتبار المشاكل الوطنيّة لهذا القطاع وتتركز التعديلات خاصة على عدد ساعات الدراسة التي أكدت دراسات مختلفة وتجارب عديدة أن ساعات الدراسة عندما تكون أقل تكون أكثر نفعا وأكثر تجديدا فلا وجود لبرامج تعاد[13] ولا لدروس تتكرر كما هي، بل إن التلميذ يصبح أكثر تركيزا وترتفع نسبة مردوديّته بشكل ملحوظ ونذكر هنا التجربة الفنلندية بما أن فنلندا تعتبر نموذج[14] يحتذى به في مجال التعليم وذلك حسب البرنامج الدولي لتقييم الطلبة حيث أنها دائما ما يتم ترتيبها ضمن الخمس دول الأوائل في جودة التعليم كما أنها أثبتت علاوة على ذلك أهميّة التوازن بين الأداء المدرسي وحياة الشباب خارج المدرسة وهو ما أكدته نتائج آخر دراسة معلنة سنة 2019.
كما أن مسألة التقليل من البرامج الدراسيّة ليست بالفكرة المستحيل تطبيقها[15]، على العكس، فالعديد من المعلمين والأساتذة لديهم القدرة على انتقاء وفرز ما يمكن الاستغناء عنه لتصبح البرامج أخف وكنتيجة تصبح ذات تأثير إيجابي على التلميذ بما أن هذا الأخير لن يعود مطالبا بحفظ كم هائل من المعلومات[16] بل سيتعلم الإتقان والإلمام بمختلف تفاصيل الدرس باستخدام العقل وقدرته على التحليل والاستنتاج علاوة على أن الساعات المتبقيّة ستكون موجّهة لمختلف الأنشطة الثقافيّة والرياضيّة والفنيّة.
وفيما يخص نظام التقييم يمكن أن يتم إعفاء التلاميذ المرحلة الابتدائيّة من الامتحانات واعتماد تقنية الترغيب ثم يتم تدريجيّا إدخال اختبارات تقييميّة تكون مدروسة وليست اعتباطيّة أولا تمت للبرنامج بصلة بل مصدرا لعديد الضغوطات النفسيّة على التلاميذ، في هذا الإطار كذلك يجدر ذكر أن التلاميذ في فنلندا لا يخضعون للامتحانات خلال الست سنوات الأولى من الدراسة وذلك لتجنب إخضاعهم للضغط وتعزيز قدرتهم على التطور بأنفسهم وليس من خلال امتحانات تمثل لهم هاجس أو تصبح عائق أمام النجاح والأسوأ أمام شغفهم بالتعليم وبنائهم لشخصيّاتهم وصقلهم لمهاراتهم، فيتمّ تقييمهم عن طريق اختبارات يقوم بها المدرسون بطريقة تراعي كل تلميذ حسب مستواه فلا وجود لأطفال متميّزون وأطفال فاشلون بل لتلاميذ متساوون في فرص التعليم الجيّد الذي يمنحهم الثقة في أنفسهم فيلعب بذلك دورا في إنشاء مجتمع متوازن.
إنشاء مراكز للصحّة النفسيّة بمختلف المؤسسّات التربويّة
يتمثّل هذا الحل في تركيز وحدات للصحة النفسيّة بكل مؤسسّة تتكوّن من: أخصائي نفسي، أخصائي اجتماعي، أساتذة شباب وطفولة تابعين لوزارة المرأة والأسرة وكذلك الأساتذة وكامل الإطار التربوي بالمؤسسّة مع إدماج العائلة كطرف محوري في بناء شخصيّة التلميذ والتأثر على صحّته النفسيّة.
وبما أن هذه الوحدات تتكون من مختصّين فإن المشاكل النفسيّة ستصاحبها مرافقة نفسيّة من المختص وبالتالي سيصبح من السهل التعرف على الاضطرابات التي يمكن أن يعاني منها الطفل كالاكتئاب أو صعوبات التعلم بأنواعها في مراحل أوليّة يسهل بذلك تداركها، كذلك بالنسبة للمشاكل الاجتماعية حيث أن الحلول التي يقدّمها الأخصّائي الاجتماعي ستكون أكثر دقّة وقابلة للتفعيل لأنها متّخذة من أهل الاختصاص ويحب أن تطال هذه الحلول حتى المشاكل خارج المؤسّسة التربويّة أي عليها الأخذ بعين الاعتبار المحيط الأسري فالمشاكل الاجتماعيّة كالفقر المدقع من شأنها سلب التلميذ دافعيّته للتعلّم و دفعه للانقطاع عن الدراسة والتوجه إلى العمل لما تتطلبه هذه الأخيرة من موارد مادّية تجعل مجانيّة التعليم محلّ شك، أو باقي المشاكل العائليّة كغياب أحد الأبوين والطلاق… ويجب أن تكون هذه الحلول مرفقة بآليّات لتكون فعّالة فتلتزم الدولة عن طريق وزارة التربية بالتنسيق مع وزارة الماليّة بتخصيص جزء من الميزانيّة لمثل هذه الفئات أي تكون مسؤوليّة الدولة وذلك تطبيقا للفصل “39” من دستور 27 جانفي 2014 المندرج في الباب الثاني بعنوان “الحقوق والحريّات” و الذي ينصّ على “… تضمن الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الإمكانيّات الضروريّة لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين…” وكذلك لضمان حدّ أدنى من المساواة وتكافؤ الفرص بين مختلف التلاميذ.
أما بالنسبة لتلقّي مهارات حياتيّة والاعتناء بالجانب الإبداعي للتلميذ فإن إطارات الطفولة التابعين لوزارة المرأة والأسرة والطفولة بإمكانهم القيام بمثل هذه المهمة ومن أجل تحقيقها يجب التنسيق بين الوزارتين المعنيتين. وتكمن أهميّة هذا الحل في اعتماد المربّين والمنشّطين لآليّات سلسة وطرق بيداغوجيّة حديثة في التعامل مع الأطفال تضفي على العمليّة التعليميّة أكثر بهجة و جعل المعلومات في بعض المواد أكثر وضوحا من خلالاضفاء جانب تطبيقي وترفيهي على جميع المواد بصفة عامّة.
وفي الأخير، من الممكن أن تتم دورات تكوينيّة في هذا المجال بين إطارات الطفولة والمعلمين خاصّة في المرحلة الابتدائيّة.
انتهاج سياسة منظمة الصحة العالميّة: خطة عمل شاملة للصحة النفسيّة
تؤكد منظمة الصحّة العالميّة على أن تدنّي الصحة النفسيّة للفرد تكون نتيجة لعديد العوامل منها كثرة الضغوطات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، انتهاك حقوق الإنسان، التمييز بأنواعه وأيضا تدنّي مستوى التعليم… وترى أنه من الضروري السعي للحفاظ عليها بما أنها تمثّل شرط أساسي للتعايش والتأقلم مع كل الأوضاع والقدرة على تجاوز الصعوبات والعراقيل وبالتالي الابداع والتميّز في أي ميدان كان.
وتتمثل سياسة منظمة الصحّة العالميّة في وضع خطّة[17] تعنى من جهة بإيجاد حلول ملموسة لمن يعانون من اضطرابات على المستوى النفسي وذلك للحد من عجزهم على التواصل والاندماج بسهولة مع المجتمع، ومن جهة الأخرى باتخاذ إجراءات وقائيّة للحفاظ على سلامة الصحة النفسيّة وتوفير الرعاية اللازمة وذلك لتعزيز حقوق الإنسان لمختلف الأفراد دون تمييز أي أن هذه السياسة لا تشمل فقط من يعانون من الاضطرابات كما هو وارد في أذهان الأغلبيّة بل كل فرد داخل المجتمع معني بهذه العناية.
ومن بين الفئات التي شملتها هذه الاستراتيجيّة هي فئة الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة أو في سن التعليم وذلك من خلال تقديم برامج بناء المهارات وتنمية الأطفال والشباب وهو ما يؤكد أهميّة هذه الفئة وتأثيرها على مستقبل البلاد والنهوض بها، فالمنظمة لم تكتف بوضع خطة عمل فقط بل حرصت على تحديد اجراءات من شأنها أن تطبق من قبل مختلف الحكومات الأعضاء وفي هذا الإطار يجدر الذكر أن منظمة الصحة العالميّة قررت آنفا تقديم الدعم اللازم للحكومات التي تنوي الالتزام بهذه الخطّة.
ومن بين الاجراءات التي يمكن لوزارة التربية العمل بها أن تطالب بتخصيص ميزانيّة خاصة لدعم التعافي وعلاج الصحّة النفسيّة للتلاميذ وخاصّة الفئات الحسّاسة.
كما أن منظمة الصحّة العالميّة تدعو الحكومات إلى تلافي الثغرات التشريعيّة وايجاد نصوص واضحة تؤطّر حقوق أصحاب الإعاقات وتحدّد إلى أي فئة ينتمي البعض منهم، فمثلا فيما يخص البلاد التونسيّة فإن الأطفال الذين يعانون من طيف التوحد و”أطفال القمر” يجب تعريفهم بدقّة لتحديد حقوقهم بما أنه من حقهم التعلّم.
وفي الأخير تؤكد منظمة الصحّة العالميّة على تعزيز الأبحاث والمعلومات حول مفهوم الصحة النفسيّة وآليّات دعمها وتدعو في هذا الجانب إلى تدخل وزارة الصحّة “لتضطلع بدور قيادي”[18] في هذا المجال كما أن المنظمة قد أكدت أنها ستعمل معها ومع الحكومات بصفة عامة لنشر المعلومات اللازمة والآليات التي تم اعتمادها وآتت أكلها في التجارب المقارنة.
التوصيّات
- على السلطة التنفيذية وبالتحديد وزارة التربية والتعليم التعجيل بتقديم مشروع قانون بغرض إنشاء المجلس الأعلى للتربية وذلك بهدف القيام بدراسات ووضع سياسات عامّة لهذا القطاع مع ادماج كل الهياكل المعنيّة بالأمر قصد استشارتهم لتغيير النظام التعليمي برمّته.
- على مديري المدارس والمعاهد التعجيل بالمطالبة بإنشاء مراكز للصحّة النفسيّة بكل المؤسسات التربوية تتكوّن من إطارات مختصّة للاستماع لمختلف مشاكل التلاميذ وإيجاد حلول فعليّة كما تعمل على إرساء ثقافة اكتساب مهارات عمليّة تساعده على الانخراط في المجتمع، ويمكن كبداية أن يتم تشكيل فرق خاصة بكل مندوبيّة جهويّة يتمّ تقسيمها على عدد من المدارس إلى أن تتمكّن وزارة التربية والتعليم من تعميمها على جميع المؤسّسات التربويّة.
- على السلطة التنفيذيّة طلب الدعم من منظمة الصحّة العالميّة لتطبيق سياستها والاقتداء بها لاتخاذ التدابير اللازمة لتطبيق خطة العمل الشاملة للاعتناء بالصحّة النفسيّة.
[1] تعريف منظمة الصحة العالمية للمهارات الحياتيّة: “هي السلوكيات والمهارات الشخصية والاجتماعية اللازمة للأفراد للتعامل بثقة واقتدار مع أنفسهم ومع الآخرين ومع المجتمع، وذلك باتخاذ القرارات المناسبة والصحيحة وتحمُّل المسؤوليات الشخصية والاجتماعية، وفهم النفس والغير وتكوين علاقات إيجابية مع الآخرين وتفادي حدوث الأزمات والقدرة على التفكير الابتكاري.”تعريف منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة المهارات الحياتيّة: “هي مجموعة من المهارات النفسيّة والشخصيّة التي تُساعد الأشخاص على اتخاذ قراراتٍ مدروسةٍ بعنايةٍ، والتواصل بفعاليّة مع الآخرين، وتنمية مهارات التأقلم مع الظروف المحيطةِ، وإدارة الذات التي تؤدي إلى التقدّم والنجاح”.[2] التربية على مهارات الحياة اليوميّة: أسس مرجعيّة ونماذج تطبيقيّة، محمد بالراشد-فوزي الطواهري-سهيل كمون: يندرج هذا الكتاب ضمن مبادرة تعليم المهارات الحياتية والمواطنة “LSCE ” وهو نتاج تنسيق بين وزارتي التربية والتعليم والصحة ومكتب اليونيسيف بتونس. ص 12 [3]نفس المرجع، نفس الصفحة: “التحديّات التي تواجه المدرسة اليوم كثيرة منها ما يتعلّق بعالم الشغل المتغيّر باستمرار والذي يستدعي اكتساب الوافدين الجدد إليه كفايات أخرى من قبيل التواصل الفعّال والعمل المتواصل”. [4] موقع “العربي الجديد”، تقرير بسمة بركات-تونس، 2 يونيو 2019. [5] نفس الموقع، يصرّح الباحث في علم الاجتماع الطيب الطويلي أن “…المحيط التربوي لطالما كان إطارا للتهذيب والتعليم والتقويم…” [6] نظام تعليمي فاشل وذلك حسب تعريف الموقع الرسمي للبرنامج الدولي لتقييم الطلبة PISAProgramme international pour le suivi des acquis des élèves وهو “عبارة عن مجموعة من الدراسات التي تشرف عليها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كل ثلاثة أعوام بهدف قياس أداء الأنظمة التربوية في البلدان الأعضاء وفي بلدان شريكة… وهو اختبار يجرى كل ثلاثة سنوات على العلوم والرياضيات والقراءة” حيث أن حسب الدراسة التي أجريت سنة 2015 من قبل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية جاءت تونس في المرتبة 65 من ضمن 70 دولة وهو ما يمكن أن يفسّر رفض الدولة التونسيّة المشاركة في هذا الاختبار لسنة 2018 تخوفا من النتائج الكارثية التي سترفع الستار عن حقيقة التعليم في تونس اليوم وهو ما تم ذكره في الموقع التونسي “Kapitalis”. [7] لمرجع السابق [8] يؤكد خبير التعليم الأكاديمي “كين روبنسون” أن أي طفل يولد بإمكانيات وطاقات كبيرة و “خياليّة” لكن التعليم التقليدي بطرقه وأساليبه الكلاسيكيّة يقتل ملكة الابداع والابتكار لديه وهي نتيجة توصل إليها بعد اختبار قام به على 1500 طفل في رياض الأطفال ثم أعاد اختبارهم عند بلوغهم ثمانية إلى عشر سنوات وكانت النتائج تدل على تدني ملحوظ لمستوى الابداع بعدما كانت مرتفعة وهذا الانخفاض يعود للنظم التعليمية ذات برامج غير محيّنة والتي تثقل كاهل التلميذ وتفقده قدرته على التفكير خارج الإطار المحدد له. موقع الجزيرة https://bit.ly/3vb3MJI [9] يشبّه ميشال فوكو نظام الامتحانات والتقييم بالسجن ويرى أنها “أداة للسيطرة” حيث أن التقييم يكون عن طريق “العقوبة الظابطة” ويعني بها الفيلسوف الفرنسي “العمليّة التي تقيس كميّا وهرميّا قدرات الأفراد” وهي أداة كانت تستخدم في السجون لتقييم السجناء عبر إسناد نقاط محددّة وهو ما يفكّرنا في طريقة التقييم بالمؤسسات التربويّة ويصنّف التلاميذ المتحصّلين على أعداد ضعيفة كتلاميذ دون المستوى المطلوب في حين أن المتحصلين على أعداد عالية يتم تصنيفهم كتلاميذ “أذكياء ومبدعين” https://bit.ly/3eqpcw2 [10] “…القلق المفرط من الامتحانات وانعدام الثقة في النفس وفي قدراته يحمل التلميذ إلى الغش…” https://bit.ly/3dCcWci [11]موقع BBC بالعربيّة https://www.bbc.com/arabic/scienceandtech/2015/07/150706_uk_exam_focus اطلعت عليه يوم 18/03/2021[12] المجلس الأعلى للتربية: فضاء نقاش هادئ لتطوير التعليم، إسلام مباركي، موقع “حلول” https://bit.ly/2QM6A0Z/ [13] على سبيل الذكر وليس الحصر برنامج مادة “التربية الإسلاميّة” نجد العديد من الدروس على مدى سنوات الدراسة إما تعاد أو تكون قريبة من بعضها البعض ولا نجد فيها من التجديد ما يمكن شدّ انتباه التلاميذ. والأمر نفسه بالنسبة لمادة التربية المدنيّة، التاريخ والجغرافيا… فتكون عبارة عن دروس متراكمة تحفظ ولا تفهم بطريقة تزيد من ثقافة التلميذ. [14] حسب مقال/ تقرير السيّد منصف قوجة، مبعوث خاص لهلسنكي عاصمة فنلندا المنشور على موقع « Kapitalis » : “فإن فنلندا تسعى إلى تصدير نظامها التعليمي للكوكب بأسره ولهذا السبب قاموا بتعيين سفيرة ماريان هوسوكو.” [15] أكبر مثال على هذا تمكن وزارة التربية من تخفيف البرامج الدراسيّة للسنة الحالية (2020-2021) وذلك عن طريق لجان مختصة ولو أن هذه العمليّة كانت من أجل ضمان استمرارية المرفق العام للتعليم في ظروف استثنائية الا أن هذا التخفيف أكبر دليل على امكانيّة التخلي عن بعض البرامج دون المساس بجودة التعليم و “بمصداقيّة الشهائد العلمية” وهو ما تم تأكيده في موقع “حقائق اونلاين” https://bit.ly/2PcxLSu [16] « Leur philosophie : si on assène trop de matières au cerveau, il va saturer et finir par de plus rien retenir du tout », https://fr.businessam.be/7-raisons-pour-lesquelles-la-finlande-le-meilleur-systeme-educatif/ [17] الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالميّة : https://bit.ly/3nikepb [18]المرجع السابق https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/mental-health-strengthening-our-response