بحث

جار التحميل...
مشاركة

“الحق في الثقافة مضمون. حرية الإبداع مضمونة، وتشجع الدولة الإبداع الثقافي، وتدعم الثقافة الوطنية في تأصلها وتنوعها وتجددها، بما يكرس قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات والحوار بين الحضارات.”

الفصل 42 من الدستور التونسي. 

تلخيص: 

في دراسة نوعية للمعهد الوطني للإحصاء بعنوان “النشرية الإحصائية السنوية لتونس 2015 – 2019″[1]، تشير الأرقام إلى تطوّر البنية التحتية للمنشآت الثقافية، وذلك بإرتفاع عدد المكتبات العمومية، ومعدّل الكتب بالنسبة لعدد السكان. من جهة أخرى، ورغم تطوّر عدد المكتبات العمومية والكتب المعروضة، تطوّرت أرقام الإقبال والإعارة عكسيا. في ذات الدراسة، بفضل الجهود الإصلاحية والاستثمارات في البنية التحتية، ارتفع عدد قاعات العرض من 23 قاعة عرض سنة 2015 إلى 35 قاعة سنة 2019. كذلك تطوّر عدد الأفلام المعروضة التي كانت أكثر من نصفها أفلاما أمريكية، فيما لا تتجاوز نسبة الأفلام التونسية الطويلة المعروضة نسبة 15% من إجمالي الأفلام الطويلة المعروضة. تجدر الإشارة إلى أن عدد المشاهدين تضاعف بنسبة 300% تقريبا، ما ينسف حجة الأفلام المقرصنة هي التي أدت إلى تقلص نسبة المشاهدة. 

تحاول هذه الورقة ، في جزء أوّل، التعرّض للإشكاليات الكبرى التي تحول دون تطوّر الإنتاج الإبداعي في تونس، من خلال تقصّي ما جاء في دراسات حول الشأن الثقافي، على ندرتها، وما كتب حول السياسات العامة الثقافية من مقالات وحوارات. في مستوى ثان، طرح بعض التصوّرات لحلولٍ من شأنها أن تساهم في صياغة رؤية إصلاحية ذات جدوى لواقع الفعل الثقافي. 

تقديم: 

في شهادة له حول موقف بورقيبة من الشيوعية، يقول الشاذلي القليبي[2]: “كان بورقيبة ضد إحداث وزارة للثقافة، لأنه إعتبرها بدعة سوفياتية. لكن لما أحدث شارل ديغول وزارة للثقافة سنة 1959، إقتنع بورقيبة بالفكرة.” تم إذن إحداث كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار سنة 1961، والتي ستتحوّل لاحق، سنة 1970، ا إلى وزارة الشؤون الثقافية، والمحافظة على التراث بين حين وآخر. وكما تغيّر إسم الوزارة من حكومة الى أخرى، تغيّرت سياساتها أيضا وفق الأجندات الحكومية. منذ إنشاءها وحتّى سنة 1980، كانت الوزارة في علاقة ترابط عضوية مع وزارة التعليم، حيث توجّهت السياسات العامة للوزارة نحو تحوّلها إلى أداة تكوينية وتربوية للناشئة آنذاك وفق مشروع القومية التونسية الذي حملته دولة ما بعد الاستقلال[3]، ما يفسّر ترابطها العضوي مع وزارة التعليم. و بالتنسيق بين الوزارتين، تمّ إدراج مواد الرسم والموسيقى في البرامج الرسمية للمدارس في فترة الستينات، ثم إلحاق المسرح، الإنشاد الجماعي ونوادي السينما في فترة السبعينات. وحيث كان محو الأمية ورفع مستويات التمدرس إحدى الخطوط العريضة للسياسات العمومية، انتظمت نوادي السينما بالمدارس وبدور الشعب (دور الثقافة سابقا)، وعرضت المسرحيات ونظمت الفرق المتجوّلة… تحوّلت هذه الأنماط الثقافية إلى أدوات بيداغوجية صرفه، فيما لم تولي الدولة الاهتمام اللازم بالإنتاج الثقافي على المستوى الإحترافي: المسرحي، السينمائي… وترك الإنتاج للمبادرة الحرة دون عناية وسياسة عامة مضبوطة[4]، فيما إقتصر دور الوزارة على لعب دور ضمير الدولة، بالإضافة إلى التنظيم والإسناد اللوجستي للمهرجانات. مع إحداث الصندوق الوطني للثقافة سنة 1984، تم تحديث سياسات الوزارة نحو دمقرطة [5]الثقافة (فتحها للجميع)، تونستها، والتوجه نحو اللامركزية. 

منذ بداية التسعينات ومع الموجة العالمية للإنفتاح الليبرالي، أدّت الإصلاحات الهيكلية، التي نصت عليها الإتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، إلى تحوّل جذري في السياسات العامة للدولة من دولة الرعاية الإجتماعيّة إلى دولة ليبرالية (متونسة)، وشمل هذا التحول القطاع الثقافي، حيث تم إدراج الصناعات الثقافية في مجلة التشجيع على الإستثمار لسنة [6]1994، ما فتح باب الإستثمار الثقافي أمام القطاع الخاص. نظريا وإلى حدود سنة 2010، تمحورت السياسات العامة حول دعم اللامركزية من خلال بعض مندوبيات جهوية للثقافة، بالإضافة إلى بعث مؤسسات أخرى على غرار وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، إعتماد مقاربة تشاركية عبر إحداث المجلس الأعلى للثقافة، تشجيع الباعثين الخواص في القطاع الثقافي من خلال التسهيلات الجبائية والشراكات بين القطاع العام والخاص وبعث مشروع مدينة الثقافة. رغم كل هذه النوايا والإنفتاح على مستوى النظري، إلّا أن الواقع الاستبدادي في تلك الفترة والخنق الممنهج للحريات، بالأساس حرية التعبير والإبداع التي تمثّل شريان العملية الثقافية، حال دون خلق مناخ ثقافي بنّاء ما يفسّر ربّما، ودون الخوض في الأرقام والمقارنات، هزال المحصّلة الثقافية[7]. فيما يلي، محاولة تشخيص الفترة الأخيرة، من 2011 الى اليوم في مرحلة أولى، ثم في مرحلة ثانية، صياغة تصوّرات لحل الإشكالات التي حالت دون ازدهار الإنتاج الثقافي، على المستوى المحلّي، وتطوّره نحو الإحتراف الإقليمي والعالمي. 

مقاربة تشخيصية عامة للواقع الثقافي:

استقالة العقل السياسي للدولة من “السياسة الناعمة”: 

“الثقافة، هي كل ما يبقى للإنسان عندما ينسى كل شيء”[8]. هكذا قال السياسي الفرنسي إدوارد هليوت. منذ ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي حتّى الآن، تداول على رأس وزارة الثقافة 9 أسماء في 10 حكومات متعاقبة. من خلفيات مختلفة، حمل الوزراء المتعاقبون أحلاما ومشاريع مختلفة، فيها الغضّ والسمين، وحفلت كل سنة في السنوات الـ 10 الماضية ببرامج ثقافية مختلفة، وصلت بينها الأهداف ووحدة التشخيص لواقع الفعل الثقافي بمختلف تعبيراتها، لكن فصلت بينها عدم الاستمرارية وتوقّف البرامج “الجديدة” مع كل رحيل: إقالة/استقالة/سحب ثقة. اللافت للنظر هو إستمرار أغلب البرامج التي جدولت ووضعت قبل الثورة، تحت وصاية “الإدارة”. ليست الثقافة إستثناء في هذا، فلقد تولّت الإدارة صياغة قوانين المالية وتحديد السياسات الجبائية وإدارة السائد اليومي، le statu quo، في ظلّ عدم الاستقرار والتشتت السياسي الذي تعيشه البلاد طيلة العقد الأخير. كما واصلت أجهزة الوزارة لعب الدور الهجين الذي انتهجته منذ سنوات التسعين. بإيجاز، عدى بعض النقاط العمومية في البرامج التي تخطّها الإدارة الثقافية، لم تجب السلط السياسية المتعاقبة عن السؤال الثقافي: ماهي الثقافة؟ ماهي الثقافة الوطنية التي نريد؟ وماهو الإنسان التونسي الذي نريد؟ كيف نرى المبدع التونسي في المستقبل؟ أي تأثير لتونس في الساحة الثقافية الدولية؟ إلى أي هدف نمضي بالصناعات الثقافية: السينما، النشر الأدبي، الفنون [9]الركحية… إلى غير ذلك من الفنون؟ بإيجاز، إكتفت الوزارة بدورها كإدارة للمهرجانات والتظاهرات.

مركزية مفرطة، بيروقراطية نافذة في ظل إنعدام الشفافية:

 في دراسة موّلتها اليونسكو سنة [10]2011، أفضى تشخيص القطاع الثقافي آنذاك إلى أنّ أحد أسباب الأزمة الثقافية يتمثّل في المركزيّة المفرطة، البيروقراطية شديدة التخصّص وإنعدام الشفافية. عشر سنوات مضت على إصدار هذا التقرير، ولم يتغيّر الشي الكثير. ورغم تنصيص دستور 2014 على اللامركزيّة، والتنصيص على ذلك أيضا في الإتفاقيّات المبرمة في إطار التعاون الدولي، لا تزال الوزارة المحدد الأساسي في العملية الثقافية، حيث تشرف على الموازنات المالية العمومية للقطاع، والتي تمثّل العامل المحدد في المعادلة، في ظلّ شح موارد التمويل خارج المنظومة العمومية والتمويلات الأجنبية. 

مع بداية مسار الإنتقال الديمقراطي، أخذت الوزارة على عاتقها القيام بالإصلاحات  اللازمة للقطاع. في ذات السياق، تمحورت التوجّهات الإصلاحية الثقافية حول الإصلاحات الهيكلية وتدعيم الحقوق الثقافية، من خلال إصلاح آليات التسيير والتراتبية داخل الإدارات ، مع بعث مؤسسات جديدة كالمركز الوطني للسينما والصورة، الذي كان أحد ثمرة توصيات المؤسسات المالية المانحة. سعت كل وزير/ة على ربط إسمه ببرنامج أو مبادرة، إلا أن هذا الربط كان عضويا، إذ ينتهي البرنامج بإنتهاء المدة الوزارية. ورغم تلحّف الوزراء باللامركزية، تواصلت العلاقة العمودية بين الوزارة ومندوبياتها الجهوية، متمثّلة في توجيه السياسات الجهوية بالجهات وفق البرامج التي حملها الوزراء[11]. مثال: جسور التواصل (لطيفة لخضر، 2016)، تونس مدن الفنون (محمد زين العابدين، 2018) وبصمات (شيراز العتيري، 2020)… 

ضعف المتابعة وغياب إطار تنظيمي: 

يتوّلى مكتب التخطيط والبرمجة والدراسات في الوزارة أساسا، إلى جانب إدارات أخرى، على جمع البيانات الإحصائيّة وإجراء تقارير تقييميّة للسياسات الثقافية. سنة 2016، أطلقت الوزارة بوّابة إلكترونية للبيانات المفتوحة: http://www.openculture.gov.tn/ ، والتي توفّر مجموعة من معطيات كميّة؛ عدد الكتب المقتناة، الأفلام والعروض المدعومة والتظاهرات التي نظمتها الوزارة… لكن إفتقار القطاع الثقافي لأطر قانونية وتنظيمية تحدد العلاقة بين مختلف الأطراف وفق إستراتيجية واضحة ومتناغمة، أدّى إلى ضعف القدرة على المراقبة والتحليل، والتعليل الملائم والتعديل، لأنشطة الوزارة. تكتسي الأرقام التي توفّرها البوابة صبغة كميّة وصفيّة حول الأشغال المنجزة من بنية تحتية، مقتنيات، البرامج والأنشطة… إلّا أنها لا توفّر أي معنى دقيق يسمح بقياس مدى نجاعة، وجودة، هذه الأنشطة، فضلا عن تقييمها. يعود ذلك لغياب لأطر تنظيمية دقيقة من حيث المفاهيم والإحصائيات المتخصصة بتأثيرات الفعل الثقافي داخل المجتمع. 

سنوات الدعمعدد العناوين المقتناةعدد النسخ
20151031154430
20161063163950
2017655140120
20181588299571
جدول: عينة من الأرقام التي توفرها بوابة الوزارة في القطاع الأدبي

لا تطرح الوزارة أصناف هذه الكتب، والإستراتيجيّة التي اتبعتها للاقتناء، حيث تكتفي بملاحظة: “تقتني الوزارة سنويا منشورات جديدة حسب حاجياتها”. ما هي هذه الحاجيات؟ من يحددّها ووفق ماذا؟ لا تتوفّر هذه المعلومات في منصّات الوزارات، المفتوحة للعموم على الأقل. 

منظومة الدعم الثقافي: أكثر من سؤال بلا جواب:

قبل الخوض في منظومة الدعم الثقافي، لا بد من الإشارة أن تواصل المنظومة القديمة في العمل، ولو باعتماد الإصلاحات التي لا تعدو كونها عمليات تزويق سطحية، يعني بالضرورة تواصل سياسة النظام السابق في استغلال وزارة الثقافة كواجهة لبيت الطاعة للمبدعين، وفق وصف وزير الشؤون الثقافية في عهد الرئيس بورقيبة، بشير بن سلامة[12]، حين أشار إلى محافظة الوزارة على “نفس آليات عمل نظام 07 نوفمبر”. 

تفتح الوزارة كل سنة باب الترشّح للحصول منحة من صندوق “التشجيع على الإبداع الأدبي والفنّي” في كافة المجالات الثقافية تقريبا. عدد الشروط الأولية لقبول الترشحات المضمنة في نص بلاغ فتح باب الترشح كل سنة، لا توجد أي معلومات عن آليات اختيار الأعمال المدعومة وقيمة المنح، مدى نجاح العمل وجودته، تأثيرها الاجتماعي والمجتمعي… كما لا تنشر قائمة الأعمال الممنوحة، ما يطرح أكثر من سؤال عن مآلات التصرّف في المال العام، باعتبار سياسة “الحوكمة الرشيدة” التي رفعتها الحكومات المتعاقبة منذ 2011 حتّى الآن، حيث تعدّ الشفافية أحد دعائمها. 

تتقاطع أغلب المشاكل المطروحة في آليات عمل وسياسة وزارة الثقافة في الغموض الذي يكتسيها، وانعدام الشفافية. فضلا عن عدم توفّر دراسات جدية، ومضمونة ، حول نوعية الأعمال الثقافية المنجزة، سواء تحت إشراف الوزارة أو ضمن مبادرات القطاع الخاص والجمعيات الثقافية غير الحكومية. إن كل تشخيص سليم يقتضي بالضرورة توفّر معطيات دقيقة. وفي ظلّ عدم توفّر بيانات ومعطيات مماثلة، يبقى العمل الثقافي، وأنشطة وزارة الثقافة، في موضع الاستفهام. 

تصوّرات لحلول وخطوات نحو النهوض بالفعل الثقافي: 

بداية، وجب التنويه إلى أن الفعل الثقافي لا يمكن أن يكون إلا فعلا جماعيا، بين مبدعين وجمهور، وبالتالي لا يمكن خطّ سياسة ثقافية ناجعة بدون فتح الباب أمام الحوار الموسّع والبناء التشاركي لتحقيق القدر الأدنى من التوافق حول مشروع ثقافي جامع وشامل ينطلق من الفرد نحو المجتمع مرورا بالعائلة، ومن المحلّي نحو الجهوي فالوطني، مع مراعاة خاصية: حرّية الإبداع، حتّى لا تتكوّن الوصاية على الثقافة. 

تحديد سياسة عامة جدية: 

في كتابه “سوسيولوجيا الثقافة والأنشطة الثقافية”، يحدّد أستاذ علم الاجتماع الفرنسي لوران فلوري العلاقة بين الدولة والثقافة كما يلي: “للسياسي وعي مبدئي بأنّ التوجّهات والميكانيزمات الرمزية للأعمال الإنسانية لها نتائج حتميّة على الفعل، الإستهلاك والإنتاج، وفق الطريقة، التي يحدّد بها الفاعلون “الاجتماعيون”[13]. عبر فتح حوار عام تشاركي، ينبغي للوزارة أن تدّعم سياساتها الحالية عبر إدراج مخطّطات إستراتيجية لأهداف محددة على المدى، القصير والمتوسّط، يقع السعي نحو تحقيقها بالإستناد إلى مؤشّرات واحصائيّات نوعيّة. يمكن للأهداف أن تضمّ مثلا: 

  • مجابهة ظواهر اجتماعيّة كالاغتصاب والتحرّش: من الجدير الإشارة إلى أن هناك جهود تبذلها الأجهزة المتدخّلة في هذا المجال كوزارة المرأة ووزارة الداخلية. كما أنه يجب الإشارة إلى أن مجابهة مثل هذه الظواهر الإجتماعيّة لا يمكن أن يقع على عاتق إدارة دون أخرى. وبالتّالي، هي جهود تتكاتف وتتعاضد ضمن سياسة عامة للدولة ككل جامع. إلّا أنه يجب لوزارة الثقافة أن تحظى بدور محوري، وقيادي، في هذه السياسة، باعتبار حساسية المسألة وجذورها الاجتماعية والثقافية. 
  • العمل على تنافسية المنتجات الثقافية التونسية على المستوي الإقليمي والدولي: من بين معوّقات الإنتاج الثقافي التونسي، ضيق السوق الداخلية وضعف موارد دخل الطبقة المتوسطة والدنيا. أمّا على مستوى الترويج والتوزيع على المستوى الإقليمي، فهناك عدة إعتبارات ثقافية، لغوية وعامل اللهجة، تحول دون ازدهار الصناعة الثقافية، كالسينما والكتاب، على المنوال المصري مثلا. لهذا، يمكن تحديد أهداف ضمن برامج الوزارة وسياساتها، تعنى بالترويج للمنتجات الإبداعية التونسية على المستوى الإقليمي في مرحلة أولى على الأقل، كإرفاق الأعمال السينمائية بترجمة إلى العربية أو اللهجات المحلية المجاورة، مع ضرورة متابعة تحقيق هذه الأهداف وغير عبر أرقام وبيانات كمية ونوعية. 

تركيز آليات متابعة وجمع بيانات ذكية: 

شكّلت سينما المؤلف، والفن التجريبي عموما، ملجأ للمثقفين التونسيين من مقص رقابة نظامي ما قبل ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي، حيث لا يمكن قياس نسبة الإقبال عليها، سواء الأفلام وغيرها من المنتجات الثقافية، معيار لنجاحها بإعتبارها فنا “نخبويا”، أو ذو صبغة أكاديمية على الأقل. ولئن حازت الأفلام التونسية مكانة معتبرة دوليا، من حيث الجوائز والحفاوة، إلّا أنها تبقى لا تصل بعد إلى محل المعادلة الصعبة للتوفيق بين النجاح على مستوى المسابقات الدولية، وتحقيق الإعتراف الداخلي. فضلا عن هذا، ومن حيث الكم، تعرف الساحة السينمائية التونسية أزمة مركبة: الإنتاج المحدود، إنخفاض مستمر في عدد المشاهدين، حيث تراجع الإنتاج من 181 فيلما (قصير وطويل) سنة 1982، 81 سنة 2002 إلى أن بلغت 11 فيلما سنة 2012. ليس السينما إستثناء، أو ربمّا هي أقل المتضرّرين، إذ تعاني جميع المجالات الإبداعية، بإستثناء الغناء والرقص الشعبيين، من أزمات مركبة تكبّل إشعاعها حتّى في ظلّ مناخ الحريات الذي ساد منذ [14]2011. 

في هذا المستوى، قد يساعد تركيز آليات متابعة وجمع بيانات، مثلا: شبّاك موحّد للتذاكر بالنسبة للسينما والمسرح وباقي العروض (نظام رقمي موحّد، يتضمّن قاعدة بيانات، لبيع تذاكر العروض الفنية) كذلك نظام ذكي لمتابعة الكتب المعارة من المكتبات العمومية، لتمكين المتدخلين في الشأن الثقافي، سواء فاعلون أو نقاد، من تحليل الميولات الفنية الشعبية والفئوية، وتحديد مكامن الفشل، كخطوة أولى نحو معادلة نجاح محلية تراعي الخصوصية التونسية والطلب الداخلي والإنتظارات الدولية. 

الختام: 

يعتبر هاورد بيكر أن الدولة “تشارك في إنتاج وتوزيع الفن داخل ترابها” وخدمة لمصالحها، من خلال أجهزتها الإدارية، وعبر ثلاث أدوات كبرى هي: الدعم الرسمي، الرقابة والقمع. وهذا تحديدا ما قامت به دولة ما بعد الإستقلال ووظفته ضمن سياستها الكبرى: التونسة وبناء العقيدة الوطنية. وبعد استنزاف سياسة التنشئة التربوية-الثقافية، عمدت الدولة، بداية التسعينات، إلى تحييد الحقل الثقافي عن الحقل العام واحداث قطيعة بين الشأن العام، خاصة الجانب السياسي برديفيه الاجتماعي والاقتصادي، والفاعلين الثقافيين. منذ ثورة 17-14 وإلى غاية هذه الأيام، لا تزال المضامين الثقافية إمّا تفتقر إلى الامتداد الشعبي/العضوي، أو تتحسّس طريقها إلى ذلك، في ظلّ الاضطراب السياسي السائد منذ 2011. عرضا نشير، قبل الختام، إلى عدّة إشكاليات أخرى، على مستوى مضامين الإنتاج الثقافي، كالاغتراب (نتيجة مباشرة للتمويل الأجنبي، انطلاقا من منطق استشراقي)، أو هيمنة ثقافة وحيدة سائدة (ثقافة مركزية للعاصمة وطمس التنوعات الثقافية للجهات)، وأيضا غياب المكوّنات الأقلية عن المشهد الثقافي (أقليات جنسية، عرقية وإثنية..)، أو استحضارها حضورا متدنيّا من الناحية القيمية (هزلي أو تحقيري بحت…). 

إن هذه الورقة هي مساهمة، أو محاولة، في قراءة وتحليل معوّقات الواقع الثقافي في تونس وفق الدراسات والقراءات المتاحة . غير أنه لحساسية موضوع الدراسة، حاولنا قدر الإمكان الحفاظ على موضوعية الطرح، وتناول إشكالات الجانب التشخيصي في مستواه الكمي والنوعي، وطرح تصوّرات لحلول لهذه الإشكالات، ما سيتيح إن تم، أرضية من المعطيات والبيانات التي تسمح للمتدخلين والفاعلين في الشأن الثقافي من تحليل أشمل وأعمق، وبالتالي طرح حلول وسياسات أكثر فاعلية. 

كما الإيديولوجيا الاقتصادية، وكما يمكن أن تكون عنصر تجميع ووحدة وطنية، فالثقافة، والإنتاج الثقافي، لا يمكن أن تنبع من طرح فردي أو طائفي هيمني ووصائي، وإنما تكون نتيجة لوفاق تشاركي وطني يضمن الحد الأدنى التمثيلي للثقافات الأقلية كالأمازيغ وغيرهم، مع مراعات الخصوصيات الجهوية للمناطق. 

التوصيات: 

  • إعادة النظر في آليات جمع المعطيات والبيانات، حول المنتجات الإبداعية والثقافية، من طرف وزارة الثقافة والأجهزة التابعة لها، مع تشريك باقي المتدخلين كالباعثين الثقافيين من القطاع الخاص. 
  • إطلاق إستشارات وطنية، تنظمها الوزارة كشريك ويدعى الفنانون، المبدعون والأكاديميون بالإضافة إلى الجمعيات الثقافية، كخطوة تمهيدية لحوار وطني حول الثقافة والسياسات الثقافية
  • إعادة تفعيل المجلس الأعلى للثقافة

[1]  النشرية الإحصائية السنوية لتونس 2015 -2019. رابط: http://ins.tn/ar/publication/alnshryt-alahsayyt-alsnwyt-ltwns-2015-2019 [2]  من برنامج خاص من إنتاج قناة نسمة بتاريخ 6 أفريل 2014 بمناسبة ذكرى وفاة بورقيبة. رابط الشهادة: https://www.youtube.com/watch?v=fzE-Sl5EQKQ&t=85s. تاريخ الإطلاع: 17/11/2021.[3]  Noureddine Sraieb, Mutations et réformes des structures de l’enseignement en Tunisie, Annuaire de l’afrique de nord, Paris 1968. Voir aussi l’article de l’auteur avec le monde dipolamtique en 1969, lien: https://www.monde-diplomatique.fr/1969/05/SRAIEB/29009 [4]  مداخلات سلمى بكار، حاتم بن ميلاد، أحمد الخشين، محمد بعزيز والنوري بوزيد في الفيلم الوثائقي للجزيرة الوثائقية “السينما التونسية (ذاكرة السينما)”. رابط الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=HHNQXicYyEM [5]  Bilel Aboudi. International Database for Cultural Policies.Country Profile: Tunisia. December 2013. Link: https://www.culturalpolicies.net/wp-content/uploads/2019/10/tunisia_full_profile_2013.pdf. Last Seen: 23/11/2021. [6]  https://www.emploi.nat.tn/upload/docs/code.pdf مجلة التشجيع على الإستثمار لسنة 1994[7]  مصدر رقم 5 [8]  Eduard Herriot :“La culture, c’est ce qui demeure dans l’homme lorsqu’il a tout oublié.” Source : http://evene.lefigaro.fr/citation/culture-demeure-homme-tout-oublie-8092.php. Date de consultation : 24/11/2021. [9]  وصف إعتمده الصغيّر الصالحي في كتابه: الإستعمار الداخلي، منظومة التهميش في تونس”.[10]  بلال عبّودي. المسح الإستكشافي للسياسات الثقافية في تونس. المورد الثقافي. رابط التقرير: https://cutt.ly/IIdRnNN . تاريخ الإطلاع: 25/11/2021. [11]  سارة الشابي. مقال بجريدة المغرب بعنوان: ” السياسات الثقافية في تونس السياق المنفصل “. تاريخ النشر: 27/07/2020. تاريخ الإطلاع: 26/11/2021.[12]  من حوار له مع نواة بتاريخ 26/08/2013. رابط الحوار: https://cutt.ly/BIdRGzd  تاريخ الإطلاع: 27/11/2021.[13]  Laurent Fleury, Sociologie de la culture et des pratiques culturelles, Paris, Armand Colin, 2010, p. 78. [14] طارق بن شعبان. الحقل الثقافي: من الثورة إلى الجمهورية الثانية. مبادرة الإصلاح العربي 2018. رابط: https://cutt.ly/WIdR0oh 

المراجع الببليوغرافية
المساهم

هيثم مدّوري

مهندس ومساهم صحفي.

العودة إلي أعلى