بحث

جار التحميل...
مشاركة

ملخص تنفيذي:

 تمثّل البحار عاملا مهمّا من عوامل استمراريّة الحياة، إذ تساهم بشكل فعال في تعديل المناخ، وهي مصدر رئيسي لتوفير الأكسجين.

يقع المجال البحري التونسيّ كغيره من المجالات البحريّة تحت طائلة العديد من التهديدات، على غرار الأزمات  البيئيّة ، التلوث الناتج عن المواد الكيميائية ، النفايات البلاستيكية…. حيث تؤثر هذه الظواهر سلبا على سلامة الطبيعة كما تساهم في المسّ من ثراء التنوّع البيئي.

ضمن هذا الإطار، تركّز هذه الورقة على السبل الضروريّة لحماية هذا المورد البيئي والحفاظ عليه كما تقدّم بعض الحلول في سبيل تحقيق ذلك.

مقدمة

 يُعرَّف التلوث بأنه “إدماج الإنسان ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، لجزيئات أو موارد طاقية داخل البيئة تكون لها جملة من العواقب السلبيّة مثل تعريض صحة وسلامة الإنسان للخطر، أو الإضرار بالموارد البيولوجية والمنظومات البيئية، أو المس من المرافق أو التدخل في الاستخدامات المشروعة الأخرى للبيئة.

يمتدّ مفهوم “التلوث البحري” كذلك إلى مفهوم تلوث المياه ، ويشمل فضلا عن ذلك الرواسب البحرية، أي أنّ هذا المفهوم يستوعب كافّة الأضرار التي تمسّ النظم البيئية البحرية بسبب تصريف المواد الضارة من خلال تأثيراتها ، مهما كانت طبيعتها أو كميتها. …

أدّى التلوث البحري في تونس إلى مخلفّات ضارّة للبيئة طالت آثارها جميع المستفيدين منها. يستمر التلوث في حدّة انتشاره بسبب موقع تونس ضمن البحر الأبيض المتوسط ​​، الشبه مغلق و قليل العمق و الذي لا يسمح بتجدد المياه لفترة طويلة. وقد أخذت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة أبعادًا تبعث على القلق على السواحل التونسية، خاصة منها سواحل المدن الكبرى التي تحتوي على الموانئ، نتيجة رمي المخلفات الصناعية.

وقد حاولت السلطات العموميّة بداية، تطبيق مقاربة تقليديّة تعزّز الأدوات القانونية للردع. غير أنّ مثل هذه الوسائل لا زالت لم تثبت جدواها.

تقييم الوضع الراهن للبيئة البحرية التونسية

يشكل الشريط الساحليّ التونسي، عنصرا رئيسيّا من عناصر تهيئة المجال الوطني. وقد تسبب الاستغلال المتنوع لهذا الشريط، الذي يضم ثلثي سكان البلاد والغالبية العظمى من المناطق السياحية في البلاد وأكثر من 80٪ من المناطق الصناعية، في آثار بيئية ضارة على جميع المتساكنين فيه. فالمنطقة الساحلية تظل في الواقع، المنطقة الأكثر تعرضًا للضغوط المرتبطة بتعدّد الأنشطة فيها : على غرار حركة المرافئ وصيد الأسماك، والانفجار الديمغرافي، والزيادة الموسمية الكبيرة في عدد السكان. كما يستمرّ هذا الشريط في استيعاب عديد مصادر التلوّث الآتية من المجال القارّي، عن طريق الجريان السطحي والانجراف، والصرف الصحي المنزليّ والصناعي أو عن طريق السفن. لذا يسبب تلوث المياه الساحلية، باعتباره موقع نشاط بيولوجي مكثف، عديد الآثار الاقتصادية على جملة من الأنشطة الساحلية، على غرار صيد الأسماك والفلاحة البحرية.

تنوع مظاهر التلوث البحري ومصادر انتشاره

يعدّ التلوث البحري آفة عالميّة من حيث مدى انتشاره، لتأثيره على النسيج البيئي للمحيطات في جميع أنحاء العالم. وتبقى هذه الظاهرة معقدة للغاية وذات أوجه متعدّدة. يكمن تعقيدها أساسا في تنوع التلوث ومصادره انتشاره. حيث لا يرجع تنوع الملوثات إلى تركيبتها الكيميائية وتفاعلها فحسب ، بل يعود كذلك إلى الطريقة التي تخترق بها البيئة البحرية، وطبيعة ومدى تأثيراتها.

لا يزال المجال الساحلي التونسي عرضة لضغوط عمرانيّة وسياحية وصناعية كبيرة.كما تتعرض مياه الساحل الشرقي التونسي القليلة العمق بشكل خاص إلى تأثير الرياح والأمواج فتنتشر الفضلات وتنتقل سريعا على امتداد المجال الشاطئي.

تبعا لذلك، يمكن تقسيم الأصناف الرئيسية للتلوث الذي يؤثر على البيئة البحرية إلى ثلاثة: كيميائية وبيولوجية وعضويّة.

  • التلوث الكيميائي

يتأتى هذا النوع من التلوث أساسا من ضخ المواد الكيميائية مثل الهيدروكربونات وأدوات التعقيم والمبيدات والمعادن الثقيلة.يتركّز هذا النوع من التلوث على نطاق واسع في السواحل التي تضمّ مناطق صناعية ولكنه غير ثابت، إذ يتنقل تبعا للتيارات البحرية والفصول. وبالتالي فان العديد من المناطق البحرية مهددة بنقص الأكسجة البحرية  hypoxie ، أو نقص الأكسجين في المحيط عموما anoxie . يمكن أن يتسبب انخفاض الأكسجين المذاب في الماء في نفوق الأسماك بشكل كبير في البيئات المائية، عندما ينخفض ​​تركيز الأكسجين إلى درجة تقلّ عن عتبة بقاء الأنواع الحيوانية.

يتأتى هذا النوع من التلوث في تونس بشكل رئيسي من المجمّعات الكيميائية الواقعة في خليج قابس. كما تمّ تسجيل عديد التهديدات البيئيّة الناجمة عن التسرّبات الظرفيّة للمحروقات على طول  الشريط الساحلي (منصات النفط البحرية، وحركة ناقلات النفط الثقيلة).

ووفقًا لـ SOS Environnement Gabès ، تاموثق لتبعات التلوث، انخفض عدد الأنواع البحرية من 250 نوعًا في سنة 1965 إلى خمسين نوعًا فقط اليوم. ويعود ذلك أساسا إلى إلقاء 42000 متر مكعبا من الجبس (خليط من الماء و الفوسفوجيبس) في البحر دون معالجة كل يوم في خليج قابس، مما أدى إلى رسوب كميات كبيرة في الشواطئ وقاع البحر.

  • التلوث البيولوجي

قد تتسبب الكائنات الحية الدقيقة في هذا النوع من التلوث: إذ يمكن أن تتكاثر الجراثيم البكتيريا والفيروسات والفطريات وما إلى ذلك الآتية من المجاري عند وصولها إلى البيئة البحرية. كما قد يتسبّب إدخال أحد الأنواع البحرية إلى منطقة لا يتواجد فيها عادةً، في مشاكل عدّة. ففي المياه العذبة، يعتبر مثال نبتة “ورد النيل” jacinthe d’eau  أحد الأمثلة المعبّرة عن هذا الوضع، فمنذ أن أدخله الإنسان إلى المياه العذبة، تمكن هذا النبات من احتلال مساحة كبيرة ضمن أنهار المنطقة المدارية ، مما أدّى للقضاء على معظم أصناف النباتات المائية المحلية والإضرار بشكل عميق بالأنظمة البيئية للمياه العذبة (الأنهار والبحيرات).

  • التلوث العضوي

يشمل التلوث العضوي كل ما يعتبر مساسا بالبنية الماديّة للبيئة البحرية بفعل عوامل مختلفة. إذ يمكن أن يأخذ شكل  تصريف للمياه قد يساهم في تغيير ملوحة المحيط، او درجة حرارته  (عن طريق محطة طاقة كهربائية أو محطات إعادة تحويل الغازات السائلة إلى غاز)، أو حتى تصريف لمجموعة من السوائل أو المواد الصلبة التي من شأنها تغيير تعكره (وحل، طمي ، إلخ) ، أو كذلك مصدرا للنشاط الإشعاعي، إلخ. ومن تبعات التلوث العضوي، إتخام المياه بالمغذيات l’eutrophisation ونقص الأكسجة l’hypoxie، مما يؤثر بدوره على الكائنات الحية. كما يمكن أن يتسبب تكاثر الطحالب الناجم عن هذا النوع من التلوث في التسمم والسرطان لدى البشر.ولا شكّ في أن تبعات هذا النوع من التلوث على السياحة في المناطق التي تمسّها هذه الظواهر سلبية للغاية.

في معظم الأحيان، لا يكون التصريف متأتيا من مصدر واحد، فقد يحدث امتزاج لمصادر التلوث المختلفة بشكل يؤثر فيه أحد العناصر على البقية.

وهكذا تلفظ المجاري النفايات العضوية أو مواد التنظيف التي قد يحتوي بعضها على معادن ثقيلة (تلوث كيميائي) أو كائنات دقيقة (التلوث البيولوجي) في المياه العذبة مما يسبب “التلوث العضويّ”.

تأثير التلوث البحري على البيئة

 يظلّ التلوث البحري عنصر تهديد متنام لصحة الإنسان وسلامة النظم البيئية والاقتصاد. ينذر تفاقم هذه الآفة بالخطر عموما، ومن أبرز مظاهرها تراكم النفايات البلاستيكية داخل المحيطات، إذ يزداد إلقاء النفايات في الأنهار والبحار بشكل كبير مع ارتفاع الإنتاج العالمي من البلاستيك و ازدياد الطلب عليه. فوفقًا ل”غرين بيس” تقدّر كمية النفايات البلاستيكية التي تصب في المحيطات كل سنة ب 11 مليون طن، أي ما يعادل مكب نفايات كل دقيقة، وهو ما يؤدّي إلى نفوق ما يقرب من مليون طائر بحري، ومئات الآلاف من الثدييات البحرية و عدد لا يحصى من الأسماك.

وتُشيرالأمم المتحدة إلى أنّه إذا لم يتم القيام بأيّ إجراء لوقف النزيف وواصلنا الإستمرار بهذا المعدل ، فإن حجم النفايات البلاستيكيّة سيتجاوز عدد الأسماك في المحيطات بحلول سنة 2050. وإذا أخذنا المكانة المركزيّة للأسماك بعين الإعتبار، فإن تبعات هذا التلوّث ستطال السلسلة الغذائيّة علاوة على صحّة الإنسان.

وفي إطار الجهود المبذولة للتقصّي حول التلوّث البحريّ و لاستيفاء فكرة أولية عن وضع التلوث البحري في المناطق الساحلية التونسيّة ، نشر مكتب مؤسّسة “هاينريش بول شتيفتونغ”الألمانيّة في تونس تقريرا، تناول الباحثون المساهمون فيه تأثيرالحطام البحري والمواد البلاستيكية الدقيقة على السواحل التونسية.

 تم تطبيق جملة من الأساليب العلمية في دراسة شواطئ الساحل التونسي حيث ركّز التقرير في دراسته على مناطق شمال قمرت ،الحمامات وجنوب صفاقس (سيدي منصور وشفار) إضافة إلى جزيرة جربة، خلال فترة الصيف من جويلية إلى أوت سنة 2018.

أثبتت نتائج العيّنات التي تمّ أخذها وجود جزيئات بلاستيكية على الساحل التونسي ، سواء في الشواطئ أو ضمن الأعمدة المائية. وكما أشرنا سابقا، قد تضرّ هذه الملوّثات بالكائنات البحرية التي تتغذّى على الحطام البحري. كما يمكن أن تصل هذه الملوّثات إلى الملّاحات، وبالتالي قد تجد طريقها إلى ملح الطعام الذي يستهلكه المواطن العادي. وبذلك لا تلوث النفايات البلاستيكية السواحل فقط، بل يطال تأثيرها جميع الحيوانات البحرية، إذ قد تعثر الحيوانات ضمن النفايات البحرية على بقايا بلاستيكية صغيرة وتستهلكها، مما قد يؤدي إلى تسمّمها ونفوقها على إثر ذلك .

علاوة على ذلك، فإن التصريف الرهيب للكاربوهيدرات يساهم بشكل جديّ في التلوّث المضرّ بالإنسان. ففي سياق مأساة خليج قابس ، تعدّ نفايات جبس الفوسفات التي يتم تصريفها بحريّا من أهمّ عوامل تلوث قاع البحرمن حيث الكيف والكمّ، حيث يتم تصريف النفايات السائلة لجبس الفوسفات من وحدات إنتاج حامض الفوسفوريك الخمس ثمّ يتم ملؤها بمياه البحر و تصريفها في خليج قابس بمعدل تدفق يبلغ حوالي 40.000 متر مكعب / يوم في المتوسط ​، أي 14000 طن يوميًا إذا ما تم مقارنته بالمواد الصلبة. وتؤثّر هذه النفايات في المقام الأول على الشريط الساحلي كما تؤدّي تبعا لذلك إلى آثار سلبيّة على النظام البيئي البحري.

وبحسب مؤسسة “هاينريش بول ، فإن تونس هي الدولة الثالثة في إفريقيا من حيث التلوث البيئي بعد مصر والجزائر بمعدل تلوث يبلغ 75.12٪ من بينها  20٪ من الإجمالي كنفايات بلاستيكيّة.

للتلوث البحري عديد الآثار على صحة الإنسان والمنظومات البيئية وخدمات هذه المنظومات. كما تتراكم عناصر التلوّث المختلفة داخل الكائنات البحرية، مما قد يؤدي إلى مشاكل صحية للأشخاص الذين يعتمدون عليها في غذائهم. بالإضافة إلى ذلك ، يمكن أن توفّر النفايات البحريّة أرضيّة خصبة لتكاثر التجمّعات الجرثوميّة المتسبّبة في انتشار عديد الأمراض.

يمكن أن تسبب النفايات البحرية كذلك أضرارًا جسدية عن طريق الاتصال المباشر أو عن طريق تغذّي الكائنات البحرية بها،حيث يتسبب تناول الأسماك لللدائن الدقيقة في إجهاد فيزيولوجي وأنواع مختلفة من مرض السرطان إضافة إلى مشاكل في الخصوبة والتكاثر.

المعضلات القانونية لمكافحة التلوث البحري

 وقّعت تونس وصادقت منذ ثمانينيات القرن الماضي، على عشرات الإتفاقيات والمعاهدات الدولية والإقليمية المتعلقة بالبيئة وبمسألة التلوّث تحديدا. وقد أثّرت مجمل هذه الاتفاقيات على توجهات ومحتوى السياسات والبرامج الوطنية ، وعزّزت بشكل نسبيّ الإطار المؤسّساتي والتشريعيّ الوطني.

من أهمّ الإتفاقيات التي تمّت المصادقة عليها “اتفاقية حماية البحر الأبيض المتوسط ​​من التلوث”، حيث تبنّت الجماعة الأوروبية و 16 دولة من دول البحر الأبيض المتوسط ​​في سنة 1976 اتفاقية برشلونة لحماية البحر الأبيض المتوسط ​​من التلوث إضافة إلى سبعة بروتوكولات إضافية تتعلق بجوانب محددة للحفاظ على النسيج البيئي للبحر الأبيض المتوسط.

ومن ناحية أخرى، توجد اتفاقية شبه إقليميّة بين حكومة الجمهورية التونسية وحكومة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وحكومة المملكة المغربية ، تهدف لوضع خطة طوارئ شبه إقليمية للتوقّي من التلوث البحري العرضي ومكافحته في منطقة جنوب غربي البحر الأبيض المتوسط ​​، والتي تمّ التوقيع عليها في الجزائر العاصمة يوم 20 جويلية 2005.

وبذلك نرى تأثيرا عميقا للاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس على الترسانة التشريعية والترتيبيّة المتعلقة بالمسائل البيئية ؛ مثل القانون عدد 73 لسنة 1995 المؤرخ في 24 جويلية 1995 المتعلق بالملك العموميّ البحريّ و القانون عدد 72 لسنة 1995 المؤرخ في 24 جويلية 1995. المتعلقة بإحداث وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحليّ (APAL) وكذلك إحداث أول وكالة وطنية لحماية البيئة (ANPE) سنة 1988 ، والقانون عدد  49لسنة 2009 المؤرخ في 20 جويلية 2009 المتعلق بالمساحات المحمية البحرية والساحلية، أمّا أكثر هذه القوانين شهرة فيبقى القانون عدد 29 لسنة 1996 المؤرّخ في 3 أفريل 1996 المتعلّق بضبط خطّة وطنيّة عاجلة لمقاومة حوادث التلوث البحري.

مع ذلك تُنبئنا البنية القانونية الوطنيّة بشيئ من عدم التوازن ضمن التشريع الوطني في المجال البيئي. فالقانون الصادر في 3 أفريل 1996 المتعلّق بضبط خطّة وطنيّة عاجلة لمقاومة حوادث التلوث البحري، والذي يُعتبر أساس السياسة التونسية في هذا المجال، لازالت تعتريه عديد مواطن القصور والتضارب. وبالتالي، فلا يوفر هذا القانون الآليّات اللازمة للتنسيق، التي تسمح لجميع الأطراف المعنيّة في التعامل بشكل سريع وفعال عند حدوث تلوث بحري خطير. ومن ناحية أخرى، ولضمان التعامل بشمل فعال مع خطر واضح مثل تلوث الساحل أو المناطق البحرية،على  السياسة الحاليّة أن تتجاوز طبيعتها التفاعلية والترقيعيّة لكي تكتسب بُعدا استباقي ووقائيا حقيقيّا.

لا جدال في أن الجهود التي بذلتها الدولة التونسية في السنوات الأخيرة في مجال حماية البيئة بشكل عام قد حقّقت خطوات لا بأس بها. ويتجلى ذلك من خلال الترسانة التشريعية والترتيبيّة التي تم إرساؤها في مجال البيئة ، والاتفاقيات التي صادقت عليها تونس ، وإحداث العديد من المؤسسات المتخصصة ، والاستثمارات الضخمة ، لا سيما في مجال إدارة المياه ومقاومة التلوث وإدارة الطاقة والجهود المبذولة للحفاظ على البيئة في مختلف القطاعات. لكن من ناحية أخرى، نجد أنّ تنفيذ سياسات هذه المؤسسات غالبا ما يتمّ بطريقة قطاعية وعشوائية نسبيًا. ولاشكّ بأن الإنقسام المؤسّساتي والإجراءات البيئية ، التي غالبا ما تكون مجزّأة ومعزولة ، تساهم في التقليص من فعالية وأداء هذه التدخلات.

ومع ذلك، فإن التنسيق بين مختلف المتدخّلين يحتاج إلى أن يتخذ صبغة أكثر ترابطا وهيكليّة من خلال إحداث أطر استشارية وعمليّة داخل المؤسّسات.

ولا يبدو أن قضية التلوث البحري تثير قلق صانعي القرار العام اليوم، ربما يعود ذلك لتعارض القانون البيئي بشكل مباشر مع المصالح الاقتصادية لعدد من الشركات وجماعات الضغط، حيث تقوم بعرقلة تطبيق القانون و الالتجاء إلى الثغرات بجميع أشكالها.

نحو سياسة بيئية أكثر فاعلية

على تونس أن تتجاوز مرحلة ردود الفعل المرتبطة ببعض الحلول الترقيعية من أجل الحفاظ على البيئة البحرية والتعامل مع التلوث البحري ،كما عليها إعادة توجيه سياستها لتتخذ بعدا استباقيّا يتوقع الكوارث البيئية البحرية.

تستند مقاومة التلوث أساسا إلى ثلاثة ركائز، وهي إعداد الوسائل اللوجستية ، تدريب الإطار البشري، وتحديث الخطة الوطنية للاستجابة للطوارئ ، ويضاف إلى ذلك ضرورة تعزيز التعاون الدولي في هذا المجال.

عمليّا، يعد تطوير القدرات الوطنية للاستجابة لأحداث التلوث في إطار خطط الطوارئ الوطنية ، بما في ذلك توفير معدات الاستجابة والإطار البشري المؤهل ، شرطًا أساسيًا، إذ بدونه سيكون التعاون الدولي والمساعدة المتبادلة غير ذي جدوى.

تحضيرالوسائل اللوجستية

تعتبر الاستجابة لأحداث التلوث البحري ممارسة في غاية التقنيّة، كما تتطلب معرفة ومهارات متخصصة ، فضلاً عن معدات وأدوات خاصة مصممة وفقًا للاحتياجات.

إضافة إلى ذلك، نصت أحكام قانون 1996 على ضرورة إعداد قوائم جرد لوسائل المراقبة ، بغرض الإبقاء على الحد الأدنى من المعدات المتاحة وضمان صيانتها. لكن تلك المرافق تختلف بشكل كبير حسب المنطقة ، ودرجة نشاط الموانئ ، وطبيعة نشاط القطاع الخاصّ الموجود فيها. وفيما يتعلق بالمراقبة والمتابعة البحرية ، فإنه سيتعين على الدولة التونسية تعزيز نظام الرقابة البحرية، أي أن نظام الكشف بالأقمار الصناعية ضروري بشكل واضح للكشف عن المخالفات البيئية، لأنه من الصعب حاليًا جمع القرائن الدالّة على هوية الملوث ، وإدانته بناء عليها.

من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بخطة الاستجابة للطوارئ، فإن كل منطقة ساحلية في تونس معرضة لخطر محتمل للتلوث البحري العرضي ، تقدّم عددًا معينًا من العناصر التي يجب أخذها في الاعتبار مسبقًا عند التخطيط للتدخل، إذ لا يكفي وجود خطة طوارئ وطنية موحّدة. فلكل حدث تلوث بحري محدد طبيعة خاصّة ، تحتّم عددا كبيرا من الأسئلة التي يجب الإجابة عليها فورا، كما تضمّ عددا من العوامل غير المتوقعة التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ القرارات العمليّة، بحيث يتم تنفيذ التدخل بشكل كامل ومنظم للحصول على أفضل النتائج الممكنة.

تدريب الإطار البشري

يعتمد التهيّؤ لمقاومة التلوث البحري على تكوين وإعداد الإطار البشري كذلك. وفي هذا السياق، فإن الدولة التونسية مدعوة بمساندة السلطات الجهويّة إلى إعداد وتنفيذ برامج تكوين للعاملين في تقنيات مكافحة التلوث البحري إضافة إلى برامج التدريب وتمارين المحاكاة.

ولتدريب الإطار البشري بالشكل الأمثل ، ينبغي لتونس الاستفادة من المشاريع التي بدأتها مع المنظمة البحرية الدولية IMO (على سبيل المثال) وهي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة مسؤولة عن سلامة وأمن وكفاءة النقل البحري ومنع التلوث من السفن. وقد وضعت المنظمة برنامج تعاون تقني صلبا ، يتم بموجبه تخصيص الموارد كأولوية للدول الأفريقية (التي تعد تونس طرفًا فيها) لمساعدتها على بناء قدراتها، لا سيما من خلال تدريب المسؤولين في القطاع العموميّ والقطاع الخاص لتطبيق المعايير الدولية.

 يمكن أن تساعد المنظمة البحرية الدولية بشكل فعّال في ترسيخ القدرات القانونية والتقنية لتطوير قدرات الإستشراف ضمن البيئة البحرية في المناطق التي لم تحقق بعد إندماجها الإقتصادي الكامل في الأسواق الدولية.

كما تنسجم هذه المساعدة مع الهدف الإنمائي للألفية الذي تمّ تقديمه بعنوان “تطوير شراكة عالمية من أجل التنمية”كما تساهم في عدد من الأهداف الإنمائيّة الأخرى مثل “القضاء على الفقر المدقع” و “تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة” و “الحفاظ على البيئة”.

تعزيز سبل التعاون

في سياق مكافحة(أو التوقي من) التلوث البحري، يُعد اللجوء إلى التعاون أمرا ضرويا لتجاوزأوجه القصور في الترسانة القانونية الوطنيّة. ويشمل هذا التعاون تبادل المعلومات وجمع وتحليل البيانات المتعلقة بأنشطة التلوث ونشر هذه البيانات والمعلومات على المستوى الدولية وإجراء عمليات الاستجابة السريعة مثل القدرة على اكتشاف واعتراض الأنشطة التي تهدد أمن البيئة البحرية.

كما يمكن إنشاء وحدة للأمن والسلامة لهذا الغرض لتقديم خدمات الدعم لمختلف المناطق البحرية في شمال أفريقيا.

 وتجدر الإشارة إلى ضرورة إحداث مركز إقليمي لرصد الدراسات والبحوث حول القضايا المتعلقة بالسلامة والأمن البحريين، يتعامل بشكل عام مع وكلاء ميدانيين من مختلف المناطق، ويكون مسؤولاً عن جمع البيانات المتعلّقة بحدوث انتهاكات للبيئة البحرية.

كما سيكون من المناسب توفير استراتيجية لمراقبة الفضاء البحري تعتمد على إحداث وحدات أمن بحري متخصصة في كل دولة من دول الجوار وإحداث شبكة خفر سواحل متكاملة شبه الإقليمية بهدف المساهمة في الحفاظ على البيئة البحرية في تونس.

التوصيات

وزارة البيئة

● التطبيق المكثّف لمبدأ “الملوّث الدافع”: حيث يجب أن يتحمل المسؤولون عن التلوث التكاليف الناتجة عنه.

● إعداد الوسائل اللوجستية:

– استخدام السفن المجهزة بأذرع عائمة (Boyan Slat’s Ocean CleanUp) والتي يمكنها ترشيح النفايات داخل المحيط ،

– دعم التعاون بين الصناعيين والعلماء المستقلّين لتقديم حلول مبتكرة تهدف إلى التقليل من حجم النفايات وتصميم مواد قابلة للتحلل البيولوجي و إعادة الرسكلة.

● بناء القدرات من خلال:

– تدريب الموارد البشرية وتطوير الخطة الوطنية للاستجابة للطوارئ.

– البحث العلمي الذي يلعب دورا مهمّا في توجيه السياسات العامة.

– تحديد مصدر هذا التلوث بأكبر قدر ممكن من الدقة لتأطير التحرّك الذي ستتخذه السلطات العامة بشكل فعال.

● تعزيز التعاون الإقليمي والدولي

وزارة التربية:

● إحداث برامج خاصة للتربية المدنية والبيئية، إذ على المنظومة التربويّة أن تساهم في توعية الأجيال الشابة بالقضايا البيئية.

المجتمع المدني والمواطنين

●خلق رأي عام لدى عموم المواطنين والأجيال الجديدة بهدف الحد من الاستهلاك المفرط للتغليف البلاستيكي والمنتجات ذات الاستعمال الواحد.

● الاستمرار في التثقيف والتوعية حول أهمية إعادة رسكلة النفايات.

المراجع الببليوغرافية
المساهم

عفاف كواص

باحثة متحصلة على درجة الدكتوراه من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ، يركز عملي البحثي على قانون البحار الدولية الكلاسيكية والمتطلبات الجديدة المرتبطة بنمو الجرائم البحرية. عملت أيضًا باحثة في منظمة Handicap International

العودة إلي أعلى