بحث

جار التحميل...
مشاركة

ملخص تنفيذي:

إنّ جوهر هذه الورقة السياسية هو التركيز على التعامل مع التراث كثروة وطنية سياديّة وجبت حمايتها وضمان سلامتها التامّة للأجيال الحالية و للأجيال القادمة. إن الحماية المستدامة للتراث لا تختلف باختلاف أنواع التراث فقط (مادّي، لا مادّي، طبيعي، …) ولكنّ تختلف باختلاف الخطر الذي يهدده. و يُعدّ التراث ثروة ذات طابع خاص، اندثارها أو التفريط فيها يعدّ نهائيّا ولا رجعة فيه، فإعادة الحالة إلى ما كانت عليه شبه مستحيلة في أغلب الحالات. ومن هنا الضرورة الملحة في انتهاج سياسات أكثر جدية في التعامل مع هذه الثروة 

التمهيد

إنّ الأحداث التي شهدتها البلاد التونسيّة من نهب وإتلاف وتهميش للتراث الوطني يُنذر بخطر محدق يهدّد الذاكرة الوطنيّة وأصالة موروثها الذي يُعتبر نتاجًا لحضارات تاريخية متنوّعة شكّلت ثراء موروثنا وتفرّده، فعراقة التاريخ التونسي متجذّرة منذ العصر الحجري أي ما قبل التاريخ، مع اكتشاف حفريات تعود للحضارة القبصيّة، فضلاً عن الحضارة القرطاجية التي تأسست سنة 814 قبل الميلاد، ثمّ الفترة الرومانية، فالفترة الوندالية، وصولاً إلى الحكم البيزنطي ليبدأ إثر ذلك، عصر الحكم الإسلامي بعد ثلاث فتوحات متتالية، ليفسَح المجال أمام دول حكمت تونس لفترة ممتدّة على الزمن، بداية مع الدولة الأغلبية حيث أصبحت القيروان فيها مركز إشعاع سياسي وثقافي، مرورا بالدولة الفاطميّة بعد قرابة قرن من العهد الأغلبي، فالدولة الصنهاجيّة، ومن ثمّ الدولة الموحديّة، والدولة الحفصية التي استمرّت من سنة 1229 إلى حين سقوطها سنة 1535 للميلاد، وأصبحت بعد ذلك تونس إيالةً عثمانية سنة 1574 حيث شهدت الحكم المرادي والحسيني وفي الأثناء أعلنت فرنسا ما سمّته بالحماية الفرنسية سنة 1881 الذي دامت حتّى سنة 1956 أي سنة الاستقلال وذلك بفضل الحركة الوطنيّة آنذاك.

إن الخوض في الأطوار التاريخية في هذا السياق التراثي ليس مجرّد سرد إخباري للأحداث، وإنّما ضرورة يقتضيها واقع التراث التونسي اليوم، فكلّ مرحلة من هذه المراحل خلّفت إرثا ثريّا من واجبنا حمايته وتثمينه، لكنّ وبالنظر للوضع الراهن، يبدو أنّ هذا الإرث قد يتوارى إلى طيّ النسيان بسبب ممارسة لا تقيم له وزنًا. 

التراث الوطني بين ضعف النظام الحمائي والمخاطر التي تترصّد به

المفهوم الضيّق للـ”تراث” في القانون التونسي

من منطلق حديثنا عن حماية التراث في القانون التونسي، حريّ بنا تقديم بسطة مختصرة عن مختلف تعريفاته في النصوص التشريعية المتعلّقة به. 

أوّلاً، تنصّ الفقرة الثانية من الفصل42   من دستور 27 جانفي 2014[1] على أنّ الدولة تحمي “الموروث الثقافي وتحمي حقّ الأجيال القادمة فيه”. ولم ترد عبارة “موروث” مطلقة بل اقترنت بالعنصر الثقافي. كما تنصّ الفقرة الثانية من الفصل الثاني من القانون عدد 91 لسنة 1988 المؤرخ في 2 أوت 1988[2] والمتعلق بإحداث وكالة وطنية لحماية المحيط على أنّه ووفقاً لهذا القانون، يُقصد بالمحيط “العالم المادي بما فيه الأرض والهواء والبحر والمياه الجوفية والسطحية (الأودية والبحيرات الشاطئية، والسبخات وما يشبه ذلك…) وكذلك المساحات الطبيعية والمناظر الطبيعية والمواقع المتميزة ومختلف أصناف الحيوانات والنباتات وبصفة عامة كل ما يشمل التراث الوطني”.  يأتي هذا الفصل بتعريف أكثر اتّساعًا لمصلح “تراث وطني” الذي لا يتعلّق فقط بالعنصر الثقافي أو بالتراث المادي، بل تجاوز هذه الرؤية الضيقة ليشمل العنصر الطبيعي كذلك.

لكنّ هذا التوسّع في مفهوم التراث لم يَطل النصّ الإطاري المتعلّق بحماية التراث، أي مجلّة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليديّة لسنة 1994[3] التي اعتمدت رؤية ضيقة للتراث تتجلّى بوضوح منذ عنوانها، فاقتصرت بذلك آليات الصون فيها على التراث الثقافي المادي من آثار ومواقع أثرية بالأساس، وحتى الفنون التقليدية كجزء من التراث اللامادي لا تحظى بحيّز كبير من المجلة، ممّا أدّى إلى التفريط في الكثير من الفنون الفولكلوريّة واندثارها. 

لذلك فإن الهدف الرئيسي من هذه الورقة السياسية، هو مراجعة النظام القانوني لحماية التراث خاصّة وأنّ الواقع يكشف عن أزمة حقيقية يعيشها الموروث التاريخي التونسي، وسوف نقدّم أمثلةً واقعية تؤكّد الحاجة الملحّة للتدخّل السريع والعاجل وضرورة اضطلاع الدولة بدورها الحمائي لهذا الموروث،

واقع التراث التونسي في مواجهة خطر الاندثار: 

يتجلّى الخطر المحدق بالتراث في الاعتداءات المتكررة عليه، والتي تُقلّص من قيمته لما تسبّبه من تغيير في خصائصه وبُنيته، وعلى سبيل الذكر لا الحصر بعض الأمثلة من هاته الاعتداءات: 

  • تزخر مدينة حمام الأنف مدينة بالبناءات التاريخية، إلّا أنّ أغلبها تعرّض لتجاهل كبير أدّى إلى تهالكها و تعرّضها للنهب، ولا يخفى على أحد الحال الذي وصل إليه القصر الحسيني أو ما يُعرف بقصر الباي.
  •  بُني هذا القصر سنة 1750 بأمر من الباي حسين بن علي باشا باي، لكنّ تحوّل هذا القصر إلى “وْكالة” (كما اعتاد أهالي المنطقة على تسميتها) تسكنها حوالي 90 عائلة، صُنِّفت سنة 2016 ضمن البنايات الآيلة للسقوط. إلى أن تمّ إخلاءها نهائيا آواخر سنة 2020 ليبقى القصر مغلقًا أمام الخطر الحتمي بالانهيار. 
  • على بعد أمتار من القصر الحسيني، نجد قصر الكازينو الذي شُيّد في الفترة الاستعماريّة، يتميّز بتفرّد معماره الذي يجمع بين الطابع الأوروبي الموريسكي والطابع الأندلسي، وعلى مدى سنوات بقي القصر مغلقًا رغم قيمته التاريخيّة. في الأيام الماضية عُقِد اجتماع بلدي جمع خبراء وممثّلين عن المعهد الوطني للتراث حول تثمين هذا القصر. لكن مخرجات هذا الاجتماع لم تنزيلها على أرض الواقع بعد. 
  • نذكر كذلك الحوادث التي وقعت في جزيرة جربة والتي استهدفت معالم أثرية أغلبها ذات صبغة دينية، على غرار ما وقع سنة 2014 من هدم لجميع “المعمورات”، وهي قباب تابعة للزوي، تقع على طول طريق المحبوبين المؤدّية إلى ميدون، قباب صمدت لآلاف السنين، دُمّرت تمامًا في فترة وجيزة. 

بالإضافة إلى عمليات حرق طالت العديد من الزوي، كلّ ذلك والسلط المعنية مغيّبة تمامًا عن حمايتها وصدّ الخطر عنها، بل وحتّى معاقبة فاعليها في أغلب الأحيان.

  •  نسوق مثالًا آخر لا يقلّ خطورة عن سابقيه، في قرطاج وعلى تخوم الموقع الأثري أُسنِدت رخص بناء دون احترام ارتفاقات التعمير، فنجد على أطراف بعض المنازل آثارًا لفسيفساء قرطاجية أو رومانية! والأمر لا يعدو إلاّ أن يكون إمّا تراخيا وإمّا تواطؤ فسادٍ بين راشٍ ومرتشٍ. أمّا في الموقع الأثري صبرة المنصوريّة بالقيروان، فالوضع أكثر سوءًا، حيث تقلّصت مساحة الموقع إلى النصف بسبب الزحف العمراني. 
  • علاوة على ما سبق، نذكر الاعتداءات المتكرّرة التي تستهدف المواقع الأثرية من قبل عصابات تجارة الآثار والمنقّبين عن الكنوز، فكثيرًا ما تتعرّض المواقع الأثرية لحملات تنقيب عشوائي بالغة الخطورة. 
  • في السياق ذاته، الحديقة الوطنية بإشكل، مصنّفة ضمن لائحة التراث العالمي، الطبيعي والثقافي. وقد تمّ ترسيم هذا الموقع في كلّ من اتفاقية التراث العالمي لليونسكو[4] واتفاقية رمسار[5] المتعلّقة بالمناطق الرطبة ذات الأهمية الدولية بالإضافة إلى اتفاقية الإنسان والمحيط الحيوي التابعة لليونسكو[6]. ويُعتبر هذا الموقع جامعا للخصائص الطبيعية فضلا عن الثقافية. وأهمّ ما يميّز هذا الموقع هو تناوب المياه العذبة والمالحة ممّا يشكّل نظامًا بيئيّا فريدًا من نوعه على المستوى العالمي. لكنّ هذا الموقع أصبح مصنّفا ضمن لائحة التراث المعرّض للخطر، نظرًا لتراجع خاصيّة التناوب في البحيرة ممّا أفقدها تفرّدها وخصوصيّتها. فقد أُنشئت ثلاثة سدود فوق الوديان[7] التي تزوّد البحيرة بالمياه العذبة، فحالت دون انسيابها للبحيرة، وقد تسبّب ذلك في تغيير كبير في النظام البيئي للمحميّة.

يُذكر أنّ تصنيف التراث العالمي في لائحة التراث المعرّض للخطر قد يؤول إلى إقصائه من لائحة اليونسكو إن لم يتمّ تلافي الخطر الذي تمّ على أساسه هذا التصنيف. 

إشكالات متعلّقة بعدم مراعاة الخصوصية التراثية:

تهميش لبعض الأصناف من التراث:

إن  التركيز على التراث الثقافي المادي كنموذج أساسي للتراث الوطني ساهم في تهميش التراث الطبيعي والتراث اللامادي. 

التراث الطبيعي:

ينصّ الفصل الثاني من مجلّة حماية التراث[8] على أنّه “يقصد بالمواقع الثقافية المواقع الشاهدة على أعمال الإنسان أو الأعمال المشتركة بين الإنسان والطبيعة بما فيها المواقع الأثرية التي لها قيمة وطنية أو عالمية من حيث طابعها التاريخي أو الجمالي أو الفني أو التقليدي.”، حيث تناول هذا الفصل التراث الطبيعي كعنصر من عناصر التراث الثقافي، إلاّ أنّ ذلك كان بصفة مقتضبة وبرقيّة، دون الوقوف على تعريف التراث الطبيعي وخصائصه ومكوّناته، ممّا أضعف التدخّل الحمائي لهذا النوع من التراث وجعل منه عنصرًا ثانويّا في المجلّة رغم بالغ أهمّيته.  

التراث اللاّمادي: 

أفرز التطوّر المفاهيمي لعبارة “تراث” أبعادًا جديدة فرضتها العولمة الثقافية والتحوّلات الاجتماعية، فالتراث اللّامادي هو شاهد على ثقافات وحضارات متواترة خلّفت أنظمة رمزية ومهارات مختلفة.

إذ يشمل التراث اللامادي كلّ من:

 “(أ) التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي؛

(ب) فنون وتقاليد أداء العروض؛

(ج) الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات؛

(د) المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون؛

(ه) المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية[9]“.

إلاّ أنّ مجلّة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليديّة اقتصرت تقريبًا على الجوانب المتعلّقة بالتراث المادي مع التنويه المقتضب لمسألة التراث اللامادي الذي تلخّص حصرًا في الفنون التقليدية الفولكلورية دون أن ترد كلمة “لامادي” أبدًا في نصّ المجلّة، [10]من جانب آخر وضع المعهد الوطني للتراث لائحة للتراث الوطني اللامادي، لكن تضمّنت هذه اللائحة 59عنصرًا فقط!

للتراث اللامادي رمزيّة هامّة بالنسبة للشعوب، لما يشعرهم به من انتماء، إلاّ أنّ خطر العولمة والتحوّلات الاجتماعية تهدّد التراث [11]اللامادي بالنسيان والاندثار.

المخاطر المتعلقة بالتغيرات المناخية  

ناهيك عن الاعتداءات والتدخّلات البشرية التي من شأنها تغيير الخصائص الطبيعية والثقافية للتراث، تشكّل التغيّرات المناخية والتبعات الناتجة عنها من جفاف وشحّ في المياه وأوبئة وكوارث طبيعية خطرًا فادحًا.

تأثيرات التغيّرات المناخيّة على التراث حتميّة وقد بدأت ويلاتها في التمظهر منذ فترة ليست بالوجيزة، فخطر الكوارث الطبيعية يتهدّد المواقع الأثرية بالاندثار، حيث دكّت معالم عظمى في مختلف أنحاء.

 العالم بسبب فيضانات طوفانية على سبيل المثال، هذا بالنسبة للتراث المادي، أمّا عن التراث اللامادي بعض المهارات والمعارف التقليدية معرّضة للنسيان، فالجفاف مثلا يجبر الحرفيين والحرفيات في صناعة الفخار على استبدال المكوّنات الطبيعية من طين ونباتات تلوين بخامات كيميائية تفقد المنتوج قيمته الأصلية[12]. لذلك، فالإستراتيجيات الاستباقية من شأنها أن تبقي التراث بمنأى عن الخطر في حال وقوعه.

كما يُعدّ التلوّث من أسوء الآفات التي تهدّد التراث، لذلك من الواجب الأخذ بسبل الحيطة والحذر لتجنّبها والتوقّي منها.

تأكّد المعطيات السّابقة فشل السياسات المعتمدة لحماية التراث، فشل أساسه ضعف التشريع وتشتّت المؤسسات وقلّة الموارد المالية. وحتى وإن سلّمنا بما لهذا النظام القانوني من ثغرات، فإنّ تطبيقه كحدّ أدنى من الحماية يبقى هزيلاً بل ومنعدمًا في أحيان كثيرة.

الحلول البديلة:  

مراجعة النصوص القانونية المتعلقة بالتراث

إنّ أهمّ نقطة يجب الانطلاق منها في مسألة حماية التراث، هي مراجعة النصوص القانونية التي أظهرت ضعفها وعدم ملاءمتها للواقع الذي يعيشه التراث الثقافي والطبيعي اليوم، فإحداث تنقيحات جوهرية لمجلّة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليديّة أصبحت ضرورة ملحّة، مع التركيز على أهمّية التوسع في تعريف مصطلح “تراث” من جهة وعلى سنّ ترسانة تشريعية صارمة تتناسب مع خطورة الجرم المرتكب ضدّ هذه الثروة الوطنية. 

فعنوان المجلّة ضيّق في مجال انطباقها بشكل كبير، فإمّا احداث تنقيحات عليها لتشمل الجانب اللامادي للتراث، أو إفراده بقانون خاص يفصّل أبعاده وتعريفه ونظامه الحمائي. 

لا مراء في أنّ المستوى العقابي المتعلّق بجرائم الآثار والمواقع التاريخيّة تطوّر إلى حدّ ما، إلاّ أنّ نقائص عديدة لم يقع تلافيها بالقدر الكافي، خاصة فيما يتعلّق بالمستوى الإجرائي، الذي يتطلّب نظامًا محكما في تتبّع الناهبين أو المعتدين، للتمكّن من تقديمهم للقضاء واستعادة القطع الأثرية إن كان الأمر يتعلّق بعمليات نهب آثار  أو في علاقة بإعادة الحال إلى ما كان عليه حيث قرارات الهدم المتعلّقة بالبناء على مواقع أثرية وفقا للفصل 83 من مجلة حماية التراث لا تقترن بأيّ إجراء تقنيّ يمنع الأضرار المترتّبة عن الهدم على الخصائص الأثرية، وبذلك يكون الضرر مضاعفًا أي عند البناء وعند الهدم. كما يتعرض من يتعمد الترخيص في البناء على موقع أثري وفقا لهذا الفصل إلى مدة تتراوح بين شهر وعام وبخطية تتراوح بين ألف وعشرة آلاف دينار أو بإحدى العقوبتين ليس إلا.

وهو ما يؤكّد ما تقتضيه الضرورة من إعادة النظر في العقوبات، سالبة للحرية كانت أو مالية، والتي يتجلّى للعيان عدم تناسبها وخطورة الجرم المقترف[13]. كلّ هذا يجب مراجعته بجدّية فائقة، خاصّة وأن التراث المادي يُعدّ هدفًا لشبكات الجريمة المنظّمة، فقد أصبح الإتجار المنظم في القطع الأثرية على مستوى الدولي من أكثر الجرائم الدوليّة تشعّبًا وتشابكًا، ممّا يستوجب تقوية مجالات التعاون الدولي لتسهيل تسليم التجّار والقطع المنهوبة[14]، وهذا ما نسعى للتوكيد عليه من خلال هذه الورقة السياسيّة نظرًا لأهمّية الأمر.

يجدر بنا التنصيص كذلك، على أنّ التراث الطبيعي كعنصر من عناصر التراث تمّ تجاهله من مجلة حماية التراث رغم أهمّيته، رغم أنه يحظى بحماية قانونية على مستوى قانون البيئة، إلّا أنّ اعتباره ضمن التراث، يضفي إليه قيمة اعتباريّة وتاريخية مختلفة.

تفعيل الفصل 5 من قانون عدد 91 لسنة 1988 [15] العمل بوجوبية التقدّم بدراسة حول احتمال التأثيرات السلبية على التراث قبل انجاز أي وحدة صناعية، فلاحية أو تجارية تمثل حسب طبيعة نشاطها أو بسبب الإنتاج أو التحويل المستعملة مخاطر المسّ من سلامة   [16]المواقع الأثرية والطبيعية، خاصة في المناطق الغنية بالمخزون الأثري.

سنّ قانون خاص بالتراث اللامادي يستجيب لأهداف اتفاقية اليونسكو لسنة 2003، ويراعي خصوصيّة التراث اللامادي من حيث آليات حمايته وإعادة ادماجه مجتمعيّا في ظلّ كل التغيّرات الثقافية. مع ضرورة إعادة النظر في اللّائحة التي وضعها المعهد الوطني للتراث، ووضع لائحة تجمع جميع مكوّنات التراث اللامادي التونسي بجميع أصنافه وتُقسّم حسب الجهات، مع إمكانية اعتماد لائحة مشتركة بالنسبة للتراث اللامادي المشترك بين أكثر من جهة، مع تحديد درجة التهديد[17] ومصادره.

دعم الإطار المؤسساتي والمالي كحجر أساس في النظام الحمائي للتراث 

فيما يتعلّق بالتراث الأثري، وجب التعهّد الدّوري بمراقبة وضعيّة البناءات الأثرية لتجنّب حالات التآكل والتهالك التي جعلت الكثير من القصور التاريخيّة آيلة للسقوط وتوفير الموارد البشريّة المختصّة لذلك، مع التركيز على تفعيل آليات التعاون الدولي لإجراء الدراسات والبحوث العلمية والتقنية التي تتطلّبها عملية حماية التراث واستدامة سلامته من قبل مختصّين.

عمليّة ترميم البنايات التاريخيّة المهترئة يتطلّب موارد مالية هامّة نظرًا لدقّة إجراءات الصيانة والتهيئة لذلك، فمن المهم جدّا التدقيق في شروط العون الدولي وإجراءاته المنصوص عليها بالصكوك الدوليّة خاصة معاهدة 1972[18] المتعلّقة بالتراث الثقافي والطبيعي والمتمثّلة في إجراء دراسات وجلب الخبراء وتقديم المعدّات التقنية فضلا عن تقديم الهبات والقروض منخفضة الفوائد[19] دون تجاهل المطالبة بمراجعة الميزانية المرصودة لحماية التراث والتي تعكس عدم الجدية في تناول المسألة التراثية.

إنّ الهيكلة المؤسّساتية لحماية التراث، في أغلب الأحيان لا تزيد التراث إلاّ تصدّعًا وتشتّتا، وهنا، من الجدير بنا الحديث عن المعهد الوطني للتراث والوكالة الوطنية لإحياء التراث والتنمية الثقافية اللذان يُعتبران “مقبرتين للتراث”[20]. إذ يغلب على الإدارتين ضعف الهيكلة والتنظيم، حيث بقيت المسألة التراثية مشتتة بيه إدارات عدّة دون أن يتمّ تحديد الاختصاصات بينهما بوضوح، وهذا سبب آخر يفسر وجاهة المناداة بمراجعة مجلة حماية التراث، حيث وجب تحديد المهام لكلّ من المؤسسات المتدخلة لألّا يحصل الخلط وسوء التنسيق كما هو الواقع الآن.

تحديد تصوّر استراتيجي متعلّق بالسياسة الوطنية لحماية التراث

إلى جانب ضرورة تعزيز الإطار القانوني لحماية التراث ودعمه بالموارد المالية والبشرية اللازمة كأساس جوهري لضمان سلامة التراث التونسي، تتهدّد التراث التونسي جملة من المخاطر التي يجب تحديدها بدقّة، مع تبيان تأثير هذه التهديدات وعلى هذا الأساس يتمّ ضبط إستراتيجيات واضحة مفصّلة. وبالتالي تحديد الخطر المتعلّق بكل نوع من التراث واعتماد سبل حمائية وفقًا للخصوصيات التراثية، 

  • بالنسبة للتراث المادي وجب ووضع خطّة إستراتيجية لترميم وصيانة البناءات المتهالكة منها استعدادًا لفتحها أمام العموم لتصبح مزارات سياحية مقابل تعريفة تعود بالنفع للموقع الأثري لصيانته وترميمه كلّما اقتضت الحاجة إلى ذلك، فتصبح هذه القصور التي طواها النسيان مُدمجة في الإستراتيجية الوطنية للسياحة الثقافية. كما يمثّل ذلك وسيلة ناجعة للحفاظ على الذاكرة الوطنية وتربية الناشئة على احترامها وتقديرها، إضافة إلى ضرورة وضع خريطة تراثية لجميع المعالم التراثية طبيعية كانت أو ثقافية (أو مختلطة) متاحة للعموم، على المنصات الإلكترونية وفي المناطق السياحية لتسهيل نفاذ الزوار إليها والتعرف عليها، مع الإسراع في تهيئة المواقع المغلقة وغير المهيأة لإدماجها جميعا في هذه الخريطة. 
  • تعميق الحسّ الوطني تجاه التراث وذلك من خلال إستراتيجية وطنية تتمحور حول حملات توعوية بالإضافة إلى بيداغوجيا تربوية تتمثّل في تضمين البعد التراثي في جميع المستويات التعليمية.
  • أصبح من الضروري عقد حوار وطني لحماية التراث، تشارك فيه جميع الأطراف المتدخّلة في صون التراث، بالإضافة إلى المجتمع المدني الملتزم بالدفاع عن القضية التراثية، للتباحث المشترك في المشاكل التي طرحناها في هذه الورقة السياسية والتي لم يسعنا المجال لذكرها، بالإضافة إلى بحث سبل تنزيل هذه التوصيات وغيرها على أرض الواقع.

التوصيات:

مجلس نواب الشعب:  لجنة الشباب والشؤون الثقافية والتربية والبحث العلمي
  • مراجعة مجلة حماية التراث لاعادة هيكلة وتنظيم الإطار المؤسساتي و تحديد المهام لكلّ من المؤسسات المتدخلة
وزارة المالية:  
  • تخصيص الموارد المالية اللازمة لدعم الإطار المؤسساتي الهش وتعزيز الموارد البشرية عند النظر في مشاريع قانون المالية السنوية 
وزارة الثقافة والحفاظ على التراث: 
  • العمل  على مشروع القانون المتعلق بحماية التراث ليشمل جميع الأصناف التراثية  التي سبق ذكرها و سنّ تشريعات صارمة تتناسب مع خطورة الجرم المرتكب ضدّ هذه الثروة الوطنية.
  • إعتماد معاهدات التعاون الدولي خاصة معاهدة 1972 المتعلّقة بالتراث الثقافي والطبيعي للاستفادة من الخبرات العلمية والتقنية وتوفير جزء من الموارد المالية المتمثلة في الهبات والقروض منخفضة الفوائد
  • العمل مع وزارة السياحة لدعم السياحة الثقافية والشروع في وضع خريطة تراثية لجميع المعالم التراثية طبيعية كانت أو ثقافية (أو مختلطة) متاحة للعموم، على المنصات الإلكترونية لتسهيل نفاذ الزوار إليها والتعرف عليها، مع الإسراع في تهيئة المواقع المغلقة وغير المهيأة لإدماجها جميعا في هذه الخريطة
  • العمل مع وزارة البيئة لحماية التراث الطبيعي واللامادي لأهمية دوره في تحقيق التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية نظرا لأنّ المهارات التقليدية تعدّ صديقة للبيئة وغير ملوّثة.

[1]  من الفصل42 من دستور 27 جانفي 2014  https://legislation-securite.tn/index.php/ar/node/44137 [2]  القانون عدد 91 لسنة 1998 المؤرخ في 2 أوت 1988 والمتعلق بإحداث وكالة وطنية لحماية المحيط، متاح على: https://bit.ly/2Ym9UR8 (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 29 جانفي 2021، 10:13) [3]  مجلّة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليديّة لسنة 1994 https://www.wipo.int/edocs/lexdocs/laws/ar/tn/tn039ar.pdf [4]  اليونسكو، نص اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، متاح على: https://ich.unesco.org/ar/convention (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 29 جانفي 2021، 11:01) [5] Convention relative aux zones humides d’importance internationale particulièrement comme habitats des oiseaux d’eau, 2 Février 1971, disponible sur : Convention relative aux zones humides d’importance internationale particulièrement comme habitats des oiseaux d’eau (Consulté le 29 Janvier 2021, 11:03) [6]  اليونسكو، برنامج الإنسان والمحيط الحيوي، 1971، متاح على: https://bit.ly/2MDYFAM (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 29 جانفي 2021، 11:05) [7]  هذه الأودية هي: وادي ملاح، وادي غزالة، وادي دويمس، وادي جومين، وادي سجنان، وادي تينجة [8]  الفصل الثاني من مجلّة حماية التراثhttp://www.inp2020.tn/ar/2020/05/16/code-de-protection-du-patrimoine-archeologique-et-historique-et-des-arts-traditionnels/ [9]   المادّة 2: التعاريف، من اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي 2003 [10]   الجرد الوطنـــيّ للتــــراث الثقـــافي اللامـــــادّي http://www.inp.rnrt.tn/index.php?option=com_content&view=article&id=181&Itemid=124&lang=ar [11]   وحيد الفرشيشي، تشريعات الملكية الفكرية وحماية التراث الثقافي غير المادي، في La femme et son environnement, sa priorité, Mélange en l’honneur de la professeure Soukeina BOURAOUI, Centre de Publication Universitaire, 2018, Tunis, الصفحة 581 [12]  UNISCO, Liste du patrimoine culturel immatériel nécessitant une sauvegarde urgente, 2011, p.4, Disponible sur : https://ich.unesco.org/doc/src/17330-FR.pdf   , (وقع الاطلاع على المصدر بتاريخ 23 فيفري 2021، 15:25)  [13]   وداد سهيّل، جرائم الآثار، مجمع الأطرشـ تونس، 2018، صفحة 92.  [14]    وداد سهيّل، المرجع السابق، صفحة 93. [15]  بالأساس هذا نصّ الفصل 5 من قانون عدد 91 لسنة 1988 مؤرخ في 2 أوت 1988يتعلق بإحداث وكالة وطنية لحماية المحيط، الصياغة الأصلية: تقدم للوكالة وجوبا دراسة حول احتمال التأثيرات السلبية على المحيط قبل انجاز أي وحدة صناعية، فلاحية أو تجارية تمثل حسب طبيعة نشاطها أو بسبب الإنتاج أو التحويل المستعملة مخاطر التلوث المحيط أو تدهوره. [16]  حامد الغضباني، إلى متى تستمرّ وزارة المحافظة على التراث على مشاكل قطاع التراث؟، نواة، 2016. [17]   وحيد الفرشيشي، المرجع السابق [18]  النصوص الأساسية لاتفاقية التراث العالمي لعام 1972 تمّ الإطّلاع عليه بتاريخ 12/03/2021 على الرّابط: https://www.arcwh.org/ar/publications/basic-texts-of-the-1972-world-heritage-convention [19]    المادة 22 من اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي.  [20]  حامد الغضباني، إلى متى تستمرّ وزارة المحافظة على التراث على مشاكل قطاع التراث؟، نواة، 2016.

المراجع الببليوغرافية
  • وحيد الفرشيشي، تشريعات الملكية الفكرة وحماية التراث الثقافي غير المادي، في La femme et son environnement, sa priorité, Mélange en l’honneur de la professeure Soukeina BOURAOUI, Centre de Publication Universitaire, 2018, Tunis, الصفحة 581.  
  • وداد سهيّل، جرائم الآثار، مجمع الأطرشـ تونس، 2018، صفحة 92. 
  • حامد الغضباني، إلى متى تستمرّ وزارة المحافظة على التراث على مشاكل قطاع التراث؟، نواة، 2016.
  • اليونسكو، برنامج الإنسان والمحيط الحيوي، 1971.
  • UNISCO, Liste du patrimoine culturel immatériel nécessitant une sauvegarde urgente, 2011
المساهم

مليكة حاج قاسم

طالبة باحثة في قانون البيئة، الكاتبة العامة للهيئة المحلية للهلال الأحمر التونسي بمرناق وعضوة في الرابطة التونسية للمواطنة كميسّرة ببرنامج active citizens/ COP26 من أجل تنفيذ برامج بيئية على المستوى المحلي

العودة إلي أعلى