بحث

جار التحميل...
مشاركة

لكلِّ شخص حقٌّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته…

 المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

تلخيص:

حسب دراسة للمعهد الوطني للاستهلاك، بالتّعاون مع وزارة التّجارة والصّناعات التّقليديّة، يعتمد حوالي 70% من مستعملي النّقل الجماعي العمومي على الحافلات أثناء تنقّلاتهم اليوميّة. إلّا أنّ نسبة رضاهم عن خدمتها لم تتجاوز 12.8%. في حين أنّ أكثر من 86% هم بين غير راض وغير راض تماما حسب نفس الدّراسة. بناءا على هذه المعطيات، سنفرد هذا الملخّص لتناول إشكاليّات النقّل البرّي الحضري العمومي و سبل حلّها. وسيقع التّركيز على إقليم تونس الكبرى لتوفّر المعطيات حوله دون سواه. ينقسم الملخّص أساسا إلى جزئين: الإشكاليّات والأسباب في مرحلة أولى والرؤية الإستراتيجيّة والحلول الممكنة في مرحلة ثانية. نظرا لكثرة المعضلات وتقاطعها مع قطاعات أخرى، تمّ إنتقاء الإشكاليّات الأكثر تواترا في التّقارير الّتي وقع الإطّلاع عليها. أمّا في ما يخصّ الحلول المقترحة، فقد تمّ التدرّج في طرحها قاعديّا إنطلاقا من النّصوص التّشريعيّة ثمّ التمويل فالبنية التحتيّة: رقميّة وترابيّة وأخيرا طرح القطاع الخاص كمكمّل   للخدمة وشريك في التنمية.

تقديم: 

شهدت البلاد التّونسيّة، منذ مطلع الثّمانينات ومع انتهاج الدولة لمنوال اقتصادي ليبرالي قائم أساسا على الخدمات والصّناعات التّحويليّة، نموّا حضريّا مبكّرا نسبيّا، حيث بلغت نسبة التّحضّر 67.7%. صاحب هذا النّمو الديموغرافي/الحضري، خاصّة في المدن الكبرى كالعاصمة وضواحيها، إطلاق مجموعة من المشاريع الكبرى لتهيئة البنية التحتيّة، مع توسيع شبكة الحافلات العموميّة و إرساء شبكة المترو الخفيف. إلّا أنّه ومع تشجيع الدّولة للنقل الفردي (برنامج السيّارات الشعبيّة، دعم الوقود…)، سرعان ما عجزت منظومة النّقل العمومي عن تحقيق الأهداف المرجوّة منها وذلك لعدّة إعتبارات كإختناق الطرّقات وضعف آليّات التّسيير والرّقابة…. ورغم حساسيّة القطاع باعتباره محرّكا للتنمية وشريكا فيها، حيث يساهم بنسبة 7% من النّاتج الدّاخلي الخام ويضمّ حوالي 120 ألف موظّف، إلّا أنّ سلط الإشراف عجزت طوال السّنوات الماضية عن دفع القطاع ليكون قاطرة إقتصاديّة وإجتماعيّة، بل وصار يشكّل عبئا على المجموعة الوطنيّة وذلك نتيجة لعدّة إشكاليّات نتناولها فيما يلي. 

الإشكاليّات وأسباب التّدهور:

حسب مخطط التنمية 2016-2020 وتقارير رقابيّة أخرى: يرجع تدهور منظومة النقل العمومي إلى عدّة عوامل أهمّها : تراجع حصّة النّقل الجماعي الحضري من مجموعة التّنقلات، تدهور أسطول النقل وفقدانه نجاعته، العجز الهيكلي عن التّسيير والإدارة و ضعف الرّقابة والشلل اللوجستي والمعلوماتي الذي يعانيه القطاع.

تراجع حصّة النّقل الجماعي الحضري من مجموعة التّنقلات:

عرفت شركة نقل تونس تراجعا كبيرا في حصتّها من مجموع التنقّلات اليوميّة للمسافرين (رسم بياني).

رسم بياني: تراجع حصّة حافلات النّقل العمومي من السّوق.

  يمكن أن يفسّر ذلك بتحسّن مداخيل الأفراد داخل المدن (خاصة تضخّم الأجور بعد الثورة)، بالإضافة إلى إنفلات القروض الإستهلاكيّة الموجّهة لشراء السيّارات من جهة وبرنامج “السيّارة الشعبيّة” من جهة أخرى (نسبة الأفراد المالكين لسيّارات 27.2% سنة 2014 مقابل 21مقابل (21% سنة 2004)). وهو ما أدّى نسبيّا، بالإضافة إلى عوامل أخرى كتدنّي الخدمة وغياب الجودة، إلى تدهور مداخيل القطاع.
رغم ما يعنيه ذلك من تحسّن للدخل الفردي، إلّا أنّ هذا الإرتفاع الهلامي في نسبة السيّارات الفرديّة أدّى إلى التسبّب باكتظاظ مروري واختناق تام لحركة الطرقات داخل المدن. حيث تقدّر التكلفة الإقتصاديّة لهذا الإكتظاظ بـ 3% من النّاتج الدّاخلي الخام. علاوة على ذلك، تشهد البلاد ارتفاعا في عدد الحوادث المروريّة مقارنة بالمعدّل العالمي(1400 قتيل سنويّا). ممّا يعني 1 إلى 2% من النّاتج الداخلي الخام حسب أرقام البنك العالمي


تدهور أسطول النقل وفقدانه نجاعته: 

يعاني سطول النقل من نقص هام في العرض، إذ تقلّص عدد حافلات شركات النقل مجتمعة من 4000 حافلة سنة 2010 إلى 2900 سنة 2016 . على صعيد جهوي، فقط 650 حافلة من أصل 1247، على ذمة شركة نقل تونس، تعتبر ناشطة في 240 خطّا. وهو ما يفسّر الشلل الذي يعاني منه القطاع في إقليم تونس الكبرى. إذ يتطلّب الإقليم 400 خط، ممّا يعني 800 حافلة إضافيّة حتّى تلبّي الخدمة تطّلعات المسافرين وحاجياتهم.
أدّى هذا التدهور إلى شلل مزمن للقطاع. حيث انهارت نسبة جاهزيّة أسطول شركة نقل تونس مثلا من 87 % سنة 2010 إلى 70% سنة 2015. ورغم تطوّر عدد المسافرين، حيث بلغ 502 مليون مسافر في نفس السنة (2015) (400 مليون مسافر سنة 2007)، إلّا أن الوضعيّة الماليّة للشركات العموميّة في القطاع واصلت مراكمة الخسائر حيث بلغت 920 م.د تجاه المزوّدين و820 م.د تجاه الدولة (الصّناديق الإجتماعيّة). وتردّ التقارير الحكوميّة هذا العجز إلى ارتفاع تكلفة النقل (تضاعف سعر المحروقات 3 مرّات في 10 سنوات وإرتفاع حجم الأجور بـ44% بين 2010 و2014). بالإضافة لعدم ملاءمة أسعار التذاكر (آخر ملاءمة سنة 2010 بـ5%) وكثرة الفئات المنتفعة بمجانيّة النّقل (الجدول المصاحب).  وأخيرا التحرّكات الإجتماعيّة إبّان الثّورة (إرتفاع عدد الموظفين إلى أكثر من 8000 موظّف كنتيجة لسياسة شراء السّلم الإجتماعي.)

المنتفعينمعايير الانتفاعنسبة الانتفاع (التخفيض)
تلاميذ وطلبةبطاقات الإنخراطات المدرسيّة90%
الأشخاص ذوي الإعاقة ذوي الإحتياجات الخصوصيّةبطاقات خاصة من طرف وزارة الشؤون الإجتماعيّة100%
صحفيّينبطاقة مهنيّة50%
الأطفال ما دون الثلاث سنواتمعاينة عينيّة100%
الأطفال بين 3 و7 سنواتمعاينة عينيّة50%
أعوان شركات النّقل وعائلاتهمبطاقات نقل مجّاني100%
جرحي الثّورةبطاقات نقل مجّاني100%
القوّات الأمنيّة والعسكريّةبطاقات مهنيّة75-100%

عجز هيكلي عن التّسيير والإدارة: 

من الجهة التّشريعيّة، ينظّم قطاع النقل القانون الأساسي 33/2004 والأمر 2767/2004 (وقوانين أخرى لاحقة سنة 2008، 2015 و2018). يضع هذا القانون القطاع كأولويّة وطنيّة وينظمّ العلاقة بين كافة المتدخّلين فيه. كما أنّه ينصّ في الفصل 4 على ضرورة إحداث سلط جهويّة منظّمة للنقل البرّي (AROTT)، دفعا للّامحوريّة. لكن رغم ذلك، لم تحدث أي سلطة جهويّة للغرض (قد ورد هذا الإشكال أيضا ضمن التقرير 23 لمحكمة المحاسبات سنة 2008، حيث لم يتم إحداث هذه السلط إلّا بتونس، سوسة وصفاقس). كما أنّ الفصل 9 منه فضفاض ويتعارض مع مبدأ اللّامركزيّة حيث يتيح للوالي (المكلّف من قبل رئيس الحكومة) التصرّف محل السّلط المنظّمة والتي لم تعيّن أبدا. أمّا من حيث البنية الهيكليّة، فإن شبكة الأطراف المتدخّلة في القطاع لا تقلّ عن 6 وزارات، وتحتّل وزارة النقل مركز هذه الشبكة وهي المنسقّة بينها ولها أكبر المهام الأساسيّة كتحديد الأسعار وطلب العروض…كما تشرف على كل شركات المجال كالفحص الفنّي وشركات النقل البرّي والحديدي والبحري والجوّي. رغم جسامة المهمّة، إلّا أنّ الوزارة تخصّص فقط 10 موظّفين للنقل العمومي (و6 موظّفين فقط في تفقدّية الوزارة). في حين أنّ السلطات الجهويّة قلّما خصّصت خطط وظيفيّة واضحة للغرض (أشارت إلى ذلك محكمة المحاسبات في تقريرها سنة 2008).
إنجرّ عن ذلك تركّز الصلاحيّات عند سلطة الإشراف حال دون ضلوع أي مؤسسة أخرى في القرار والتخطيط. وهو ما يتعارض ومبدأ اللامركزيّة الذي ينصّ عليه دستور 2014. علاوة عليه، تضطلع الدولة، ممثّلة بوزارة الإشراف، بمهام مختلفة ومتداخلة (شريك، مراقب، صاحب قرار سياسي، مشرف، حريص على المصلحة العامة…) وهو ما من شأنه في النّهاية أنّ يعرقل عمليّة أخذ القرار بالسّرعة المطلوبة لاعتبارات عديدة. كما أنّه يجرّد مجلس الإدارة (والذي تعيّنه الوزارة) من أي مسؤوليّة. ما يسبّب عدم وضوح الوظيفة المساهمتيّة للدولة، وبالتّالي تشتّت الرّقابة و تغيّبها في بعض الأحيان.


ضعف الرّقابة وشلل لوجستي ومعلوماتي: 

أشار التقرير 23 لمحكمة المحاسبات إلى ضعف المراقبة على الطّرقات. وهو ما يسبّب إشكالات عديدة كتقلّص إيرادات الشّركة. ويبدو أنّ مشكلة الرّقابة والمراقبة مزمنة في القطاع. كما أشار تقرير المحكمة إلى عجز محطّات النقل عن استيعاب المسافرين والعربات. ورغم مرور أكثر من 10 سنوات، إلّا أنه، حسب تقرير البنك الدولي، فإن سلطات الإشراف لم تتخذ أي إجراءات تذكر للإصلاح. من جهة أخرى، يتضمّن أكثر من تقرير لمراجعي حسابات نقل تونس فوارق سلبيّة غير مبرّرة بحوالي مليوني دينار في المحروقات خلال أربع سنوات (بين 2012 و2015). ضمّنت محكمة المحاسبات أيضا ملاحظاتها عن غياب  التدقيق الطاقي الشامل في شركات النقل في تقريرها عن التحكّم في الطّاقة يعود إلى سنة 2007 . وأخيرا، يذكر تقرير محكمة المحاسبات عدم إكتمال إنشاء قاعدة بيانات شاملة والتي كان من المقدّر أنّها ستكون أساس عمل مرصد وطني للنقل (لم يبعث أيضا) إلى جانب جملة من التطبيقات الإعلاميّة.  وذكر تقرير البنك العالمي أنّه من إشكاليّات القطاع عدم وجود نظام معلوماتي شامل.
أثّر ضعف الرّقابة إلى انحدار جودة النقل و تقلّص موارده. كما أدّى غياب المراقبة والمحاسبة إلى عجز طاقي تراكمي. و  أدّى ارتجال التخطيط إلى سوء إستغلال الفضاء العمومي (الطريق)، حيث صار يعرقل تحسين وتطوير منظومة النّقل، بل يعرقل عملها نظرا لعدم وجود سياسة واضحة لتهيئة الفضاء بطريقة ناجعة تضع في إعتبارها مستعملي الطريق (مترجلّين، دراّجات وعربات). ممّا أجهز نهائيّا على جودة النقل من خلال تأخير لا متناهي في الرّحلات والتنقّلات، ناهيك عن حالة المحطّات الكارثيّة والتي لا تتضمّن أي معايير للجودة (عدد قليل من المقاعد، إنعدام الحماية والأمن عموما).

     عظمة الحل تضاهي جسامة المشكل

لم تزل الحكومات المتتالية بعد الثّورة تجود بحلول ترقيعيّة إعتباطيّة كتدعيم الأسطول بحافلات جديدة وقديمة تارة والسّعي العبثي إلى تشبيبه تارة أخرى عبرعمليّات التّجميل والتّزويق المنهكة وعديمة الجدوى (تشبيب الأسطول واقتناء حافلات جديدة/ مستعملة…) دون تبنّي سياسة واضحة و مهيكلة تعالج المشكل المتجذّر في الواقع. نصف الحل التّشخيص السّليم والدّقيق . على أنّ يتبع ذلك رؤية إستراتيجيّة وطنيّة شاملة يكون قطاع النّقل أولويّتها وبمشاركة جميع الأطراف المتدخّلة.
وبناءا على ما سبق، صار من الحتميّ التأسيس لرؤية إستراتجيّة وسياسة إصلاحيّة يكون هدفها تحويل قطاع النّقل من قطاع معرقل ومنهار إلى مساهم إقتصادي فاعل وقطاع تنموي وإيكولوجي تكون مصلحة المواطن ورفاهه في أعلى هرم أوليّاته وجوهر حركته


الرؤية الإستراتيجيّة والحلول المطروحة:

تهيئة قاعدة تشريعيّة وقانونيّة متلائمة مع الغايات المنشودة:

تماهيا مع مبدأ اللامركزيّة في الدّستور، وجب أوّلا إعادة هيكلة التّشريعات (قوانين وقرارات وأوامر…) في اتجاه منح السلط الجهويّة أكثر مرونة في التصرّف في مواردها مع القطع مع التشعّبات البيروقراطيّة المركزيّة الحالية. إستكمال بعث وتعميم السّلط الجهويّة المنظمّة للنقل البرّي على غرار المشاريع النّموذجيّة بصفاقس (2015) وتونس (2018) وفق ما نصّ عليه القانون الأساسي 33/2004، مع تدعيمها بالصلاحيّات اللّازمة وتسخير كلّ الإدارات الجهويّة المتدخّلة في المجال حتّى يكون أداءها فعّالا وسريعا باعتبار الأولويّة المطلقة للقطاع، وما سينجرّ عن إصلاحه من حركيّة إقتصاديّة واندماج اجتماعي. في هذا الإطار، يمكن الإتفاق بين السّلط المركزيّة والجهويّة عبر عقود مقابل أهداف (contrats pour objectifs)، يتمّ رسمها بين الطّرفين (السّلطة المركزيّة والجهويّة) وفق تدرّج زمني مضبوط مع التّدقيق الدّوري الشامل من طرف ثالث (Auditeur tierce partie). في الأثناء، وجب النّظر في المجلّة التّرابيّة وأن تسعى الحكومة (ومجلس نوّاب الشّعب) لمراجعتها في القريب العاجل حتّى يتم الحسم في صلاحيّات السّلط الجهويّة (بلديّة، ولاية، إدارة ومعتمديّة…).

بعث بنية رقميّة ورقمنة القطاع:

رغم وجود القرار والتخطيط منذ أكثر من 20 سنة، إلّا أنّه وإلى الآن لم يتسنّى لوزارة النّقل إرساء نظام معلومات متعلّق بالنّقل البرّي والذي كان سيمهّد الأرضيّة لبعث مرصد وطني للنقل يعنى بالمراقبة والحسن على ضمان الجودة. إنّ التطوّر التكنولوجي الذي شهده العالم في العشريّة الأخيرة، يساعد على بعث تطبيقات حديثة وخدمات رقميّة تمكّن من جعل قطاع النقل قطاعا ذكيّا (STI) و مرتبطا بالإنترنت (إنترنت الأشياء IOT). من شأن هذه الأنظمة أن تساعد على الإرتقاء بجودة النّقل، إذ سيتمكّن المسافرين من رصد مكان الحافلة والوقت المقدّر لوصولها. كما سيساعد الإدارة على رصد تحرّكات الأسطول، وبالتّالي مراقبته، كما سيسهّل معرفة النّقائص ومعالجتها حينيّا.

إستحداث قنوات تمويل مستدامة لفائدة القطاع: 

يبقى التّمويل هو التّحدّي الأكبر أمام المشاريع العموميّة. فموازنات الشّركات السّلبيّة وعجز الميزانيّة حالا دون استكمال عدّة مشاريع وتأخير أخرى. إلّا أن قطاع النّقل قطاع واعد وحيوي وله قابليّة أنّ يكون ذاتيّ التّمويل، فضلا عن أن يكون قطاعا مربحا. سنة 2015، مثّل التّنقّل 10% من النفقات اليوميّة للمواطنين. وهو ما يعدّ عاملا من عوامل تدهور المقدرة الشّرائيّة لكثير من الفئات في المجتمع. عليه، وجب مراجعة نظام تسعير التّذاكر حتّى يراعي كلفة التّنقّل والصيانة من جهة، والضّغوط الإقتصاديّة والإجتماعيّة للمستهلكين التّونسيين من جهة أخرى. يمكن إعتماد مؤشّر Farebox recovery ratio في إحتساب التكلفة والتّقليص تدريجيّا من مساهمة الدولة عبر الصّعود بهذا المؤشّر نحو 100% ولما لا 120% مستقبلا، بحيث يصير قطاعا مربحا للمجموعة الوطنيّة عبر توفير مداخيل للاستثمار في قطاعات أخرى غير مربحة ماديّا كالتّعليم والصحّة. يمكن أيضا إرساء نظم بيع تذاكر متطوّرة مثل “Billetique intégrée”  مع الإستعانة بتطبيقات هاتفيّة قصد الوصول لوسائل نقل مختلفة عبر نفس المنصّة و بمعيار تسعيري يتلاءم مع الإستعمال ويحترم علاقة السعر-الجودة.

تهيئة بنية تحتيّة عصريّة/ تفعيل النّقل التشاركي و الإيكولوجي:

لا يمكن للقطاع أن يتطوّر لتلبية تطلّعات المسافرين دون توفير البنية التحتيّة الملائمة له. توفير مسالك خاصّة بالحافلات للجولان والرّكن هو ضرورة حتميّة في منظومة نقل حضري محترمة. إنّ الإختناق المروري الذي تعاني منه الطرّقات وخاصة في المدن الكبرى يعرقل مرور الحافلات ويسبب تأخيرا لا متناهي لمستعمليها ممّا يأثّر على جودة خدماتها. في إنتظار إكمال برامج النّقل الحديدي السّريع، يمكن تجهيز مسالك خاصة للحافلات دون غيرها. كما يجب تجهيز المحطّات بفضاءات للوقوف والتوقّف لتفادي تعطّل الحركة في الطرقات. يمكن في هذا الإطار دراسة مسالك فرعيّة بعيدة عن الطرق الرئيسيّة وتهيئتها على حسب قابليّتها للإستيعاب. تبقى وسائل النّقل البديلة والموازية أيضا حلّا. حيث يمكن تقنين النّقل التشاركي (autopartage/covoiturage)، وتوفير مسالك جولان الدرّاجات الهوائيّة ومساحات لركنها بأمان قرب محطّات النّقل العمومي.

تشريك القطاع الخّاص وتشجيع المبادرات الشّبابيّة: 

رغم التّوجّه الليبرالي  الذي إعتمدته الدّولة منذ ثمانينات القرن الماضي، إلّا أنّها لم تمضي جدّيا في هذا الإتّجاه. في قطاع النّقل مثلا، لم تسند السّلطة أي رخص لشركات النّقل الجماعي الخاص منذ 2005 رغم كثرة الطّلب وعجز المؤسّسة العموميّة عن تلبيته (فقط 10% من السّوق). يجب أن يكون القطاع الخاص أكثر تمثيلا في السّوق بحيث يقع تنظيمه وتوجيهه نحو الخطوط الّتي لم تصلها المؤسّسة العموميّة حتّى يكون مكمّلا لها وشريكا فاعلا في التنمية. كما أنّه يمكن الإستعانة بالشّركات النّاشئة Start-ups في مجال التطبيقات الإعلاميّة للشّركات العموميّة مع المناولة بينها، دورة تكليفيّة كل 5 سنوات مثلا، بهدف تشجيعها وتكوين خبرات وطنيّة في المجال. 

الختام:

كثير من الورشات والمنتديات نظّمت والعديد من الشّراكات عقدت حول منظومة النّقل في تونس: ورشات بين وزارة النّقل من جهة وكالة التنميّة الفرنسيّة (َAFD) ووكالة التعاون الألماني (GIZ). نتج عن هذه الملتقيات عدّة تقارير ودراسات كافية وشافية للنّهوض بالقطاع على جميع المستويات: برّي وبحري وجوّي. لكن في مرحلة أولى، تبقى هذه الرؤى الإصلاحيّة رهينة إنجاز خطوط النقل الحديدي السّريع (RFR)  والّذي كان من المفترض أن يكون في حالة نشاط الآن، زمن تحرير هذه السّطور أكتوبر 2020. لكنّ رغم الإضافة التي كانت ستقدّمها هذه الشّبكة، على الأقل لخطيّ منّوبة، فإن باقي الخطوط المنوطة للحافلات ستبقى في حالة كارثيّة إلى أن يتم إستكمال باقي الخطوط كما وردت في المخطط الحادي عشر للتنمية في نسخته القديمة (خطوط الغزالة، حي النّصر، البحر الأزرق،المحمديّة…). وهو ما من شأنه أن ينسف ثمار هذه الشّبكة، وسيؤدّي إلى الإنحدار بها إلى الحضيض مع باقي وسائل النّقل نتيجة المنظومة المهترئة أساسا. ومن هنا، فإنّه في مرحلة ثانية، وجب توفير الإرادة السّياسيّة والقياديّة اللازمة لتجسيد أدبيّات التقارير على أرض الواقع حتّى يتمّ تلافي الخسائر الماديّة والمعنويّة المتأتيّة من المنظومة الحالية، وإيقاف استنزاف  موارد البلاد في التّرقيع والتزويق. 

توصيّات: 

  • الشّروع العاجل في التّرتيب لمراجعة التشريعات والقوانين المنظّمة للقطاع عبر فتح حوار شامل يضمّ كلّ الأطراف المتداخلة في المجال، بما فيها المنظّمات الإجتماعيّة، لتهيئة الأرضيّة المناسبة للإصلاحات الواردة أعلاه.
  • إطلاق إستشارات تقنيّة وطلبات عروض لآليّات التّسيير والرّقابة مع التّنصيص المسبق على الاستئناس بتجارب ناجحة في إقتصاديّات مماثلة أثناء بلورة الرؤية الإستراتيجيّة للقطاع موجّهة بالأساس لوزارة النقل.
  •  العمل الفوري على وقف نزيف القطاع عبر الشّروع في عمليّات رقابيّة وتدقيق شامل لحصر  الخسائر وتقليصها مع تدعيم فرق الرّقابة والتفقدّيّات بالآليّات والخبرات والموارد اللازمة لإعداد التّقارير الرّقابيّة الّتي ستكون من أسس الإصلاح والهيكلة المنشودة.

المراجع الببليوغرافية
المساهم

هيثم مدّوري

مهندس ومساهم صحفي.

العودة إلي أعلى